اجتماعي

الإخوة الأعداء حين يصبح بيت العائلة ساحة حرب

فايزة العجيلي

كان‭ ‬البيت‭ ‬الكبير،‭ ‬بيت‭ ‬الجدّ،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬تُفتح‭ ‬أبوابه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُطرق‭ ‬جرسه،‭ ‬يُشبه‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬أمّا‭ ‬اليوم،‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬بيت‭ ‬العائلة‭ ‬‮«‬أرضًا‭ ‬حرامًا‮»‬،‭ ‬يسكنه‭ ‬الصمت،‭ ‬ويملأ‭ ‬أركانه‭ ‬الصراخ،‭ ‬وغابت‭ ‬عنه‭ ‬الضحكات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتصاعد‭ ‬من‭ ‬فناجين‭ ‬القهوة‭ ‬وأصوات‭ ‬الأطفال،‭ ‬تحوَّل‭ ‬الملاذ‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬معارك،‭ ‬والأخوة‭ ‬إلى‭ ‬خصوم‭… ‬فمَنْ‭ ‬سرق‭ ‬الدفء؟‭ ‬ومَنْ‭ ‬أشعل‭ ‬نار‭ ‬القسوة؟

من‭ ‬حضن‭ ‬الأمان‭ ‬إلى‭ ‬مقصلة‭ ‬الوجع

كانت‭ ‬العائلة‭ ‬الليبية‭ ‬هي‭ ‬الحصن،‭ ‬الجدار‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يُسند‭ ‬ظهرك‭ ‬مهما‭ ‬انكسر،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬تغيّر‭ ‬الأزمنة،‭ ‬غيّرت‭ ‬القلوب‭ ‬ملامحها،‭ ‬وأصبح‭ ‬بيت‭ ‬العائلة‭ ‬عنوانًا‭ ‬للصراع‭ ‬على‭ ‬الورث،‭ ‬وللعنف‭ ‬النفسي،‭ ‬ولإقصاء‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬‮«‬سلطة‮»‬‭ ‬له‭. ‬الأخ‭ ‬الكبير‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كبيرًا‭ ‬بالحكمة،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬الأقوى‭ ‬صوتًا،‭ ‬والأكثر‭ ‬نفوذًا،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يُقرر‭ ‬ويُقصي‭ ‬ويُسيطر‭.‬

‮«‬البيت‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬صار‭ ‬ضيقًا‭ ‬على‭ ‬قلوب‭ ‬البنات

القصص‭ ‬كثيرة،‭ ‬ومتشابهة‭ ‬حدّ‭ ‬الوجع‭:‬

‮«‬خرجتِ‭ ‬لبيت‭ ‬زوجك،‭ ‬خلاص،‭ ‬مكانك‭ ‬مش‭ ‬هنا‭!‬‮»‬

عبارة‭ ‬تتلقّاها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأخوات‭ ‬المتزوجات‭ ‬عند‭ ‬أول‭ ‬خلاف،‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬الحاجة‭ ‬لحضن‭ ‬الأهل‭ ‬بعد‭ ‬تعب،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬حين‭ ‬يُضيق‭ ‬عليها‭ ‬زوجها‭. ‬فجأة،‭ ‬تصبح‭ ‬الابنة‭ ‬التي‭ ‬تربّت‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬وملأت‭ ‬جدرانه‭ ‬بالضحك،‭ ‬غريبة‭ ‬الوجه‭ ‬والهوى،‭ ‬يُعاملن‭ ‬وكأنهن‭ ‬ضيفات‭ ‬ثقلاء،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قالت‭ ‬إحدى‭ ‬السيدات‭ ‬في‭ ‬الاستطلاع‭:‬

بيت‭ ‬العيلة‭ ‬بقى‭ ‬لعنة‭… ‬مش‭ ‬بركة‭. ‬ولما‭ ‬نحتاجه،‭ ‬نتحاسب‭ ‬كأننا‭ ‬شحّاذين‭!‬‮»‬

‮«‬سلطة‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬انقرضت‭… ‬والزعامة‭ ‬لسليط‭ ‬اللسان

في‭ ‬زمن‭ ‬مضى،‭ ‬كان‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬يجمع‭ ‬الشتات،‭ ‬يبادر‭ ‬بالصلح،‭ ‬ويكسر‭ ‬الخلاف‭ ‬بوقار‭ ‬الأب،‭ ‬اليوم،‭ ‬اختلف‭ ‬الميزان‭. ‬من‭ ‬يملك‭ ‬صوتًا‭ ‬أعلى‭ ‬ولسانًا‭ ‬أشرس،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬‮«‬يحكم‮»‬

‭ ‬أما‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬بُنيت‭ ‬عليها‭ ‬العائلة،‭ ‬من‭ ‬رحمة‭ ‬وتكاتف،‭ ‬فقد‭ ‬سقطت‭ ‬ضحيةً‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬‮«‬من‭ ‬الأقوى؟

أحد‭ ‬المشاركين‭ ‬يقول‭:‬

‭)‬زمان،‭ ‬الكبير‭ ‬يلمّنا،‭ ‬اليوم‭ ‬الكبير‭ ‬يتفرج،‭ ‬أو‭ ‬يحرض‭!(‬

بيت‭ ‬العائلة‭: ‬من‭ ‬وطن‭ ‬جامع‭ ‬إلى‭ ‬أطلال‭ ‬متهالكة

تحوّل‭ ‬بيت‭ ‬العائلة‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬مهجور‭ ‬من‭ ‬الضحك،‭ ‬مأهول‭ ‬بالحزن‭. ‬لا‭ ‬زيارات،‭ ‬لا‭ ‬جمعة‭ ‬على‭ ‬فطور‭ ‬الجمعة،‭ ‬لا‭ ‬دعوات‭ ‬للعشاء‭. ‬مناسبات‭ ‬العزاء‭ ‬أصبحت‭ ‬اللقاء‭ ‬الوحيد،‭ ‬وحتى‭ ‬فيه،‭ ‬تسبق‭ ‬العيون‭ ‬الكلمات‭ ‬بالحقد‭ ‬واللوم‭.‬

رأي‭ ‬الناس‭: ‬تغيّرت‭ ‬النفوس‭ .. ‬أم‭ ‬تغيّرت‭ ‬الظروف؟

سعاد،‭ ‬55‭ ‬سنة‭:‬

‮«‬زمان‭ ‬كان‭ ‬الأب‭ ‬يقول‭ ‬كلمة،‭ ‬الكل‭ ‬يسمع‭. ‬اليوم‭ ‬الأخ‭ ‬يقول‭ ‬كلمة،‭ ‬والباقي‭ ‬يتخانق‭. ‬ما‭ ‬عادش‭ ‬فيه‭ ‬احترام‭ ‬ولا‭ ‬حب‭ ‬حقيقي،‭ ‬كله‭ ‬مصالح‭.‬‮»‬

سالم،‭ ‬38‭ ‬سنة‭:‬

‮«‬الفلوس‭ ‬والورث‭ ‬فرّقوا‭ ‬بينا‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬خواته‭.‬‮»‬

جميلة،‭ ‬42‭ ‬سنة‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬متجوزة‭ ‬منذ‭ ‬15‭ ‬سنة،‭ ‬لكن‭ ‬لما‭ ‬دخلت‭ ‬بيت‭ ‬العيلة‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬أمي،‭ ‬حسّيت‭ ‬إني‭ ‬دخيلة‭. ‬قالولي‭: ‬إنتِ‭ ‬مش‭ ‬مننا‭ ‬خلاص‭!‬‮»‬

نجاة‭ ‬27‭ ‬سنة‭ – ‬موظفة‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬بنت‭ ‬متزوجة،‭ ‬ولما‭ ‬توفي‭ ‬والدي‭ ‬حسّيت‭ ‬إن‭ ‬باب‭ ‬بيتنا‭ ‬تقفل‭ ‬عليّ‭ ‬إخوتي‭ ‬الشباب‭ ‬قالوا‭ ‬ليّ‭ ‬بالحرف‭: ‬عندك‭ ‬بيتك،‭ ‬حلي‭ ‬مشاكلك‭ ‬فيه‭. ‬بس‭ ‬لما‭ ‬يمرضوا‭ ‬أو‭ ‬يحتاجوا،‭ ‬يتذكّروا‭ ‬إننا‭ ‬إخوتهم‭!‬‮»‬

علي‭ ‬65‭ ‬سنة‭ – ‬متقاعد‭:‬

‮«‬زمان‭ ‬كانت‭ ‬العيلة‭ ‬تكبر‭ ‬وتشد‭ ‬بعضها،‭ ‬اليوم‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬يشد‭ ‬الجهة‭ ‬اللي‭ ‬تريحه‭. ‬الكبير‭ ‬ما‭ ‬عادش‭ ‬له‭ ‬كلمة،‭ ‬وصوت‭ ‬العقل‭ ‬أصبح‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬صراخ‭ ‬المصالح‭.‬‮»‬

‭ ‬مريم‭  ‬18‭ ‬سنة‭ – ‬طالبة‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬العيلة،‭ ‬وأشوف‭ ‬الصراعات‭ ‬قدامي‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬مرات‭ ‬أخاف‭ ‬أحكي،‭ ‬كأني‭ ‬لازم‭ ‬أختار‭ ‬طرف،‭ ‬مع‭ ‬أني‭ ‬نحبهم‭ ‬كلهم‭. ‬بس‭ ‬البيت‭ ‬بطل‭ ‬أمان‭.‬‮»‬

حسين‭ ‬40‭ ‬سنة‭ – ‬سائق‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬عشتُ‭ ‬تجربة‭ ‬مرة‭ ‬خواتي‭ ‬البنات‭ ‬طُردن‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬العيلة‭ ‬بعد‭ ‬زواجهن،‭ ‬رغم‭ ‬إن‭ ‬أبوي‭ ‬كان‭ ‬موصي‭ ‬ما‭ ‬يضاموش‭. ‬بس‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ ‬تحوّل‭ ‬البيت‭ ‬لملك‭ ‬خاص‭ ‬لأحد‭ ‬إخوتي‭ ‬وزوجته،‭ ‬وكأن‭ ‬خواتي‭ ‬ما‭ ‬عاشوش‭ ‬فيه‭.‬‮»‬

فاطمة‭ ‬52‭ ‬سنة‭ – ‬ربة‭ ‬منزل‭:‬

‮«‬كنا‭ ‬نقعدوا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬واحد،‭ ‬نعيّدوا‭ ‬ونفرحوا‭ ‬سوا‭. ‬اليوم،‭ ‬حتى‭ ‬السلام‭ ‬صار‭ ‬مجاملة‭ ‬باردة‭. ‬بيتنا‭ ‬عامر‭ ‬بالأثاث،‭ ‬فاضي‭ ‬من‭ ‬القلوب‭.‬‮»‬

‭ ‬أنور‭ ‬33‭ ‬سنة‭ – ‬معلم‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬ضد‭ ‬فكرة‭ ‬إن‭ ‬البنت‭ ‬بعد‭ ‬الزواج‭ ‬ما‭ ‬عادش‭ ‬إلها‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أهلها‭. ‬البيت‭ ‬اللي‭ ‬كبرت‭ ‬فيه‭ ‬لازم‭ ‬يظل‭ ‬مفتوح‭ ‬إلها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وقت،‭ ‬موش‭ ‬حسب‭ ‬مزاج‭ ‬إخوتها‭ ‬وزوجاتهم‭.‬‮»‬

في‭ ‬الختام‭: ‬هل‭ ‬نكتب‭ ‬النهايات‭ ‬بأيدينا؟

ما‭ ‬حدث‭ ‬للعائلة‭ ‬ليس‭ ‬قدَرًا،‭ ‬بل‭ ‬انعكاس‭ ‬لما‭ ‬صنعناه‭ ‬بأنفسنا‭. ‬بيت‭ ‬العائلة،‭ ‬ذاك‭ ‬الاختراع‭ ‬الإنساني‭ ‬الجميل،‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬إن‭ ‬تمسكنا‭ ‬بما‭ ‬يجعله‭ ‬حيًا‭: ‬الرفق،‭ ‬والحوار،‭ ‬والعدل،‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬الرحمة،‭ ‬فلنعيد‭ ‬للأخوة‭ ‬معناها،‭ ‬وللبنات‭ ‬حقّهن‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬وُلدن‭ ‬فيه،‭ ‬لا‭ ‬حيث‭ ‬يُقرره‭ ‬الآخرون‭. ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى