
كان البيت الكبير، بيت الجدّ، ذلك الذي تُفتح أبوابه قبل أن يُطرق جرسه، يُشبه قطعة من الجنة على الأرض. أمّا اليوم، فقد صار بيت العائلة «أرضًا حرامًا»، يسكنه الصمت، ويملأ أركانه الصراخ، وغابت عنه الضحكات التي كانت تتصاعد من فناجين القهوة وأصوات الأطفال، تحوَّل الملاذ إلى ساحة معارك، والأخوة إلى خصوم… فمَنْ سرق الدفء؟ ومَنْ أشعل نار القسوة؟
من حضن الأمان إلى مقصلة الوجع
كانت العائلة الليبية هي الحصن، الجدار الأخير الذي يُسند ظهرك مهما انكسر، لكن مع تغيّر الأزمنة، غيّرت القلوب ملامحها، وأصبح بيت العائلة عنوانًا للصراع على الورث، وللعنف النفسي، ولإقصاء من لا «سلطة» له. الأخ الكبير لم يعد كبيرًا بالحكمة، بل صار الأقوى صوتًا، والأكثر نفوذًا، هو من يُقرر ويُقصي ويُسيطر.
«البيت الكبير» صار ضيقًا على قلوب البنات
القصص كثيرة، ومتشابهة حدّ الوجع:
«خرجتِ لبيت زوجك، خلاص، مكانك مش هنا!»
عبارة تتلقّاها الكثير من الأخوات المتزوجات عند أول خلاف، أو عند الحاجة لحضن الأهل بعد تعب، أو حتى حين يُضيق عليها زوجها. فجأة، تصبح الابنة التي تربّت في البيت وملأت جدرانه بالضحك، غريبة الوجه والهوى، يُعاملن وكأنهن ضيفات ثقلاء، أو كما قالت إحدى السيدات في الاستطلاع:
بيت العيلة بقى لعنة… مش بركة. ولما نحتاجه، نتحاسب كأننا شحّاذين!»
«سلطة الكبير» انقرضت… والزعامة لسليط اللسان
في زمن مضى، كان الأخ الأكبر يجمع الشتات، يبادر بالصلح، ويكسر الخلاف بوقار الأب، اليوم، اختلف الميزان. من يملك صوتًا أعلى ولسانًا أشرس، هو من «يحكم»
أما القيم التي بُنيت عليها العائلة، من رحمة وتكاتف، فقد سقطت ضحيةً في ساحة «من الأقوى؟
أحد المشاركين يقول:
)زمان، الكبير يلمّنا، اليوم الكبير يتفرج، أو يحرض!(
بيت العائلة: من وطن جامع إلى أطلال متهالكة
تحوّل بيت العائلة إلى بيت مهجور من الضحك، مأهول بالحزن. لا زيارات، لا جمعة على فطور الجمعة، لا دعوات للعشاء. مناسبات العزاء أصبحت اللقاء الوحيد، وحتى فيه، تسبق العيون الكلمات بالحقد واللوم.
رأي الناس: تغيّرت النفوس .. أم تغيّرت الظروف؟
سعاد، 55 سنة:
«زمان كان الأب يقول كلمة، الكل يسمع. اليوم الأخ يقول كلمة، والباقي يتخانق. ما عادش فيه احترام ولا حب حقيقي، كله مصالح.»
سالم، 38 سنة:
«الفلوس والورث فرّقوا بينا كل واحد يفكر في نفسه، حتى لو على حساب خواته.»
جميلة، 42 سنة:
«أنا متجوزة منذ 15 سنة، لكن لما دخلت بيت العيلة بعد وفاة أمي، حسّيت إني دخيلة. قالولي: إنتِ مش مننا خلاص!»
نجاة 27 سنة – موظفة:
«أنا بنت متزوجة، ولما توفي والدي حسّيت إن باب بيتنا تقفل عليّ إخوتي الشباب قالوا ليّ بالحرف: عندك بيتك، حلي مشاكلك فيه. بس لما يمرضوا أو يحتاجوا، يتذكّروا إننا إخوتهم!»
علي 65 سنة – متقاعد:
«زمان كانت العيلة تكبر وتشد بعضها، اليوم كل واحد يشد الجهة اللي تريحه. الكبير ما عادش له كلمة، وصوت العقل أصبح أضعف من صراخ المصالح.»
مريم 18 سنة – طالبة:
«أنا صغيرة في العيلة، وأشوف الصراعات قدامي كل يوم، مرات أخاف أحكي، كأني لازم أختار طرف، مع أني نحبهم كلهم. بس البيت بطل أمان.»
حسين 40 سنة – سائق:
«أنا عشتُ تجربة مرة خواتي البنات طُردن من بيت العيلة بعد زواجهن، رغم إن أبوي كان موصي ما يضاموش. بس بعد موته تحوّل البيت لملك خاص لأحد إخوتي وزوجته، وكأن خواتي ما عاشوش فيه.»
فاطمة 52 سنة – ربة منزل:
«كنا نقعدوا في بيت واحد، نعيّدوا ونفرحوا سوا. اليوم، حتى السلام صار مجاملة باردة. بيتنا عامر بالأثاث، فاضي من القلوب.»
أنور 33 سنة – معلم:
«أنا ضد فكرة إن البنت بعد الزواج ما عادش إلها حق في بيت أهلها. البيت اللي كبرت فيه لازم يظل مفتوح إلها في كل وقت، موش حسب مزاج إخوتها وزوجاتهم.»
في الختام: هل نكتب النهايات بأيدينا؟
ما حدث للعائلة ليس قدَرًا، بل انعكاس لما صنعناه بأنفسنا. بيت العائلة، ذاك الاختراع الإنساني الجميل، لا يموت إن تمسكنا بما يجعله حيًا: الرفق، والحوار، والعدل، وقبل كل شيء، الرحمة، فلنعيد للأخوة معناها، وللبنات حقّهن في المكان الذي وُلدن فيه، لا حيث يُقرره الآخرون.