
تُعد الأورام من القضايا الصحية الحساسة والمعقدة، التي تمس حياة الكثيرين بشكل مباشر أو غير مباشر ومع تزايد نسب الإصابة وتطور طرق التشخيص والعلاج، بات من الضروري تسليط الضوء على هذا الموضوع من مختلف الجوانب الطبية، النفسية، والاجتماعية حيث تم رصد أوضاع المعهد القومي لعلاج الأورام بمدينة صبراتة وللإقتراب أكثر من واقع مرضى الأورام ، ونقل صوت الأطباء والمختصين، والتعرف على التحديات والآمال التي ترافق هذا المرض .
والتقينا أولاً مع المدير العام بالمعهد الدكتور محمد الكواش الذي قال بأن المعهد بيت المرضى… والسرطان معركتنا جميعًا .
بدأ الدكتور حديثه قائلاً” تأسس المعهد القومي لعلاج الأورام عام 1993، وبدأ فعليًا في استقبال المرضى سنة 1995 وكان يُعرف في البداية باسم المعهد الإفريقي ثم تغير اسمه إلى المعهد القومي عام 2012 ليكون من أوائل المراكز المتخصصة في علاج الأورام بشمال إفريقيا ويضم جميع التخصصات المرتبطة بهذا المرض المعقد.
عدد المرضى أكبر من قدرة المعهد
وعن أبرز التحديات الحالية، لم يتردد الدكتور في الإشارة إلى العدد المتزايد من المرضى تجاوز الطاقة الاستيعابية للمعهد، لا سيما في ظل قلة عدد الأسرة، ومحدودية الإمكانيات، وهو ما يضعنا أمام تحديات يومية في استقبال الحالات.
وأوضح الدكتور أن نقص الأدوية كان من أكبر التحديات حيث العلاجات الخاصة بالأورام باهظة الثمن، وغالبًا ما يعجز عنها حتى أصحاب الدخل الجيد، ناهيك عن محدودي الدخل لكن في الأسابيع الأخيرة، بدأنا نستلم بعض الأدوية الجديدة من خلال جهود إدارة البلاد الطبي والهيئة الوطنية، ونأمل خلال الشهرين القادمين أن تتوفر جميع أنواع الأدوية اللازمة.
وأضاف الكواش بأن عدد الأطباء قليل لا يتجاوز 70 طبيبًا فقط، بينما نحتاج على الأقل 40 إلى 50 طبيبًا إضافيًا والمشكلة أن هذا التخصص صعب ومعقد، لذلك لا يُقبل عليه الكثير من الأطباء الشباب.
وحول تنسيق العمل داخل المعهد، يوضح الدكتور أن هناك هيكلًا تنظيميًا واضحًا ” لدينا مدير عام، وتحت إدارته قسم الخدمات الطبية، وهو المسؤول عن التنسيق بين مختلف الأقسام كما يوجد لدينا لجنة علمية استشارية تقدم الرأي العلمي والخطط المستقبلية لتطوير الأداء” .
وعن دعم المرضى المحتاجين، قال الدكتور” يوجد صندوق تبرعات رسمي، لكن التبرعات من المواطنين قليلة جدًا ونحاول عبر هذا الصندوق، وعبر لجنة الزكاة، أن نغطي بعض احتياجات المرضى من أصحاب الدخل المحدود، لكن الدعم لا يكفي.”
ونوه الكواش إلى أن للمعهد دورًا مهمًا في التوعية المجتمعية حيث نقوم بحملات للكشف المبكر خاصة بسرطان الثدي وسرطان القولون، لأن الكشف المبكر هو الوسيلة الأفضل لرفع نسب الشفاء وتقليل تكلفة العلاج.
وقدم مدير المعهد شكره لكل من يعمل في هذا الصرح، رجالًا ونساءً، ممن يسهرون على راحة المرضى رغم الصعوبات اليومية مؤكداً على أن كل مريض يأتي للمعهد يصبح جزءًا من عائلة المعهد و تمنى الشفاء للجميع، ودعا الناس لإجراء الفحوصات المبكرة، لأن السرطان كلما اكتُشف مبكرًا، زادت فرص النجاة.
الدكتورة حليمة محمد: الأورام لم تعد تميّز بين عمر أو جنس… والدواء حلم مؤجل بانتظار وعود الدولة
داخل أروقة المعهد القومي لعلاج الأورام في صبراتة، تقف الدكتورة حليمة محمد، الصيدلانية ورئيسة قسم العلاج الكيماوي، كشاهد عيان على واقع صعب يعيشه مرضى السرطان في ليبيا ورغم التحديات اليومية التي تواجهها، لا تزال تؤمن برسالة الطب والإنسانية التي دفعتها لاختيار هذا التخصص الدقيق.
تقول الدكتورة حليمة ” أنا دكتورة صيدلانية، ورئيسة قسم العلاج الكيماوي في المعهد القومي لعلاج الأورام في صبراتة بدأت مسيرتي المهنية مباشرة في هذا القسم في البداية لم أكن أملك دراية كبيرة بهذا المجال، لكنني اخترته لأنه مختلف ومميز، ويعكس جزءًا من شخصيتي، فأنا أحب التحديات والأشياء التي تحتاج إلى تركيز واهتمام” .
تصف الإمكانيات المتاحة في القسم بالبسيطة، وتحديدًا فيما يتعلق بالأدوية الأساسية لعلاج الأورام في السنوات الأولى كانت الأمور أفضل إلى حد ما، أما الآن فالوضع أصبح صعبًا جدًا المريض يواجه معاناة كبيرة في تأمين العلاج، خاصة مع غلاء الأسعار وتدهور الوضع المعيشي… الرواتب لم تعد تكفي حتى لجرعة واحدة.”
وتتابع الدكتورة حليمة ” رغم كثرة الوعود من الدولة بتوفير الأدوية، إلا أن الواقع مختلف تمامًا، ونحن نعيش اليوم على أمل تحقق تلك الوعود، وعن أنواع الأورام تشير الدكتورة حليمة إلى أن أنواع الأورام التي تصل إلى المعهد متنوعة، وتشمل فئات عمرية مختلفة تقول ” في السنوات الأخيرة، لاحظنا ارتفاعًا مهولًا في عدد الحالات الجديدة يوميًا نفتح ما لا يقل عن خمس حالات جديدة، وهذا رقم كبير جدًا مقارنة بعدد السكان والإمكانيات الطبية.
وتضيف: “نشهد حالات إصابة بأورام في الدم والغدة الدرقية، والرحم، وسرطان القولون، وحتى الرئة الأكثر صدمة أن هذه الأنواع لم تعد حكرًا على فئة عمرية معينة، فاليوم نجد من هم في سن الخامسة أو السادسة عشرة مصابين بسرطان القولون، ومن النساء غير المدخنات مصابات بسرطان الرئة… هناك شيء غير طبيعي يحدث.”
وتضيف “ أن هذه الظاهرة تستحق دراسة معمقة لمعرفة أسبابها، “قد يكون الأمر مرتبطًا بعوامل بيئية، أو بالغذاء والماء والهواء… أو بطفرات جينية متزايدة، ولكن لا يمكننا الجزم دون دراسة علمية دقيقة.”
ورغم التحديات الطبية والضغط النفسي، ترى الدكتورة حليمة أن علاقتها بالمرضى تتجاوز حدود العلاج تقول:
“في البداية، يكون المريض في حالة صدمة، خائفًا، مترددًا في التفاعل، لكن مع الوقت تنشأ بيننا علاقة إنسانية قوية نحن لا نعطيهم العلاج فقط بل نصبح جزءًا من حياتهم ونتواصل معهم باستمرار، ونسأل عنهم حتى خارج ساعات العمل”.
تختم الدكتورة حليمة حديثها بنبرة فيها الكثير من الإصرار” رغم كل شيء، نحن هنا، نحاول أن نقدم كل ما نستطيع. ننتظر أن تتحقق الوعود، وأن يتحسن الوضع لأن مرضى الأورام يستحقون الأفضل… يستحقون أن يعيشوا بكرامة، وأن يتلقوا علاجهم دون معاناة مادية ونفسية مضاعفة.
الممرضة زينب الفتحلي: الحالة النفسية للمريض هي مفتاح العلاج… ورفض العلاج الكيماوي نادر جداً
في قسم العلاج الكيماوي بالمعهد القومي لعلاج الأورام في صبراتة، تعمل الممرضة زينب محمد بن قاسم الفتحلي منذ سنوات تملك من الخبرة ما يجعلها تقرأ وجوه المرضى قبل كلماتهم، وتتفهم مخاوفهم من جرعة أو إبرة قد تكون مفتاح الحياة.
تتحدث زينب عن مسيرتها قائلة: بدأت العمل في قسم الأورام منذ ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى قسم أمراض الدم «الهيماتولوجي» لأربع سنوات تقريبًا، قبل أن أعود مجددًا لقسم العلاج الكيماوي في عام 2020م ومنذ ذلك الحين أعمل هنا حتى اليوم وقد تجاوزت خبرتي الآن الخمس سنوات في هذا التخصص.
ورغم حساسية العمل في هذا القسم، تؤكد زينب أن التعامل مع المرضى لا يزال يمنحها إحساسًا بالرضا وعن تعاملهم مع العلاج الكيماوي، تقول: من خلال تجربتي، لم ألاحظ أن هناك من رفض العلاج الكيماوي تمامًا ، المريض عادةً يصل إلينا بعد أن يُقرر الطبيب خطة العلاج ويُكتب له التربيشيه أي ورقة العلاج بمجرد أن يرى المرضى ذلك يتجهون للقسم لتلقي الجرعة.
و توضح زينب أنها تعرف ، من خلال خبرتها، ما قد يتعرض له المريض بعض المرضى قد يصابون بدوخة ، أو تسارع في نبضات القلب ، أو يشعرون بضعف مفاجئ في هذه الحالات، أتصرف مباشرةً، فأوقف العلاج فورًا، ثم أبدأ في قياس الضغط، والسكر، ودرجة الحرارة إذا كانت القيم طبيعية، أبدأ بإعطاء الأدوية اللازمة، كالكورتيزون مثلاً، حسب الحالة وإذا لاحظت انخفاضًا في السكر، أتصرف بحسب الحالة، وأوفر له العلاج المناسب.
وتضيف: «في السابق كنا نرجع للأطباء فورًا، لكن اليوم، وبسبب انشغال الأطباء في أقسام أخرى، أصبحنا نعتمد على خبرتنا الأولية لإنقاذ الموقف إلى حين التدخل الطبي».
وقال مدير الشؤون الطبية بالمعهد، وطبيب أمراض النساء سابقًا الدكتور محمود التومي أن ارتفاع أعداد الإصابات بالسرطان مؤشر خطير… والتشخيص المبكر يحتاج لخريطة جينية وطنية.
الدكتور التومي التحق بالمعهد منذ ثمانية أشهر، بعد سنوات من العمل في مجال أمراض النساء والآن يتابع عمل المعهد من موقع إداري وطبي، ويسعى مع الفريق لتحسين مستوى الرعاية قدر الإمكان، رغم التحديات الكبيرة حسب قوله .
وعن الإمكانيات المتوفرة، أوضح الدكتور أن الدولة هي الداعم الأساسي للمعهد، منوهاً إلى أن العلاج الكيماوي متوفر للمرضى سواء في الأقسام الداخلية أو العيادات الخارجية، والمعهد من حيث التجهيز يُعد متكاملًا، على غرار معاهد الأورام العالمية لكنّ نقص الدعم البحثي يُشكل عائقًا كبيرًا.
وحول أنواع الأورام المنتشرة، يوضح التومي ” بالنسبة للرجال، يعدّ سرطان البروستاتا الأكثر انتشارًا، يليه سرطان الرئة أما بالنسبة للنساء، فيتصدّر سرطان الثدي، ثم سرطان القولون والمقلق أن عدد الحالات الجديدة في تزايد سنوي ففي عام 2022م سُجلت 1523 حالة جديدة، بينما بلغت الحالات في 2024 حوالي 1758 حالة وحتى تاريخ 27 أبريل من هذا العام «2025»، سجلنا بالفعل 606 حالات جديدة.”
يرى مدير الشؤون الطبية أن التغيرات الوراثية الحديثة لها دور واضح في تبدل الفئات العمرية المصابة، ويقول: ” قبل 20 عامًا، كان سرطان المبيض يظهر غالبًا لدى النساء المتقدمات في العمر، أما اليوم فنراه في أعمار أصغر بكثير، كذلك سرطان الرئة لم يعد حكرًا على المدخنين المسنين إذ نشاهد حالات في الأربعينيات، بل أحيانًا أقل وكذلك القولون، الذي أصبح يظهر في رجال دون سن الخمسين، وهو ما يستدعي دراسات بحثية لفهم هذه التحولات.
ويؤكد : ليبيا تفتقر إلى خريطة جينية وطنية، ولا توجد مراكز بحثية قادرة على تحليل هذه التغيرات، مما يعيق وضع سياسات صحية قائمة على الأدلة.”
عن واقع العمل اليومي، يقول الدكتور محمود: ” المعهد أُغلق لمدة سنة ونصف لأسباب عدة، وبعد إعادة افتتاحه، بدأنا بدور واحد فقط يضم أقسام الباطنة والجراحة، بإجمالي 16 غرفة فقط وهذا العدد لا يغطي احتياجات المرضى، ونضطر أحيانًا للاعتذار أو تأجيل الحالات بسبب امتلاء الأسرة.
وعن تعاون المرضى يقول الدكتور محمود ” المرضى في الغالب متعاونون جدًا، فهم يدركون صعوبة حالتهم، ويثقون في الطاقم الطبي والتمريضي نحاول دائمًا أن نكون قريبين منهم إنسانيًا ونفسيًا، لأن ذلك يساهم في نجاح العلاج.
ووجه الدكتور التومي رسالة قال فيها ” لا يمكننا محاربة السرطان بالدواء فقط، بل نحتاج إلى العلم، والبحث، والدراسات الجينية، وهذا ما نفتقر إليه. أدعو الدولة إلى دعم البحث العلمي في مجال الأورام، لأن الأرقام تتزايد، والأعمار تنخفض، والمستقبل يتطلب تحركًا جادًا قبل فوات الأوان .
في زوايا قسم الأورام بمستشفى صبراتة، حيث يختلط صمت الانتظار بأصوات المصلات المتقطعة، التقينا بالدكتورة أمل مبروك شخيم، طبيبة آثرت أن تحمل على عاتقها واحدًا من أثقل التخصصات الطبية إنسانيًا ونفسيًا لم يكن اختيارها عشوائيًا، بل كان قرارًا نابعًا من تجربة شخصية تركت بصمتها في وجدانها.
قالت بنبرة حزينة : ” قسم الأورام مظلوم في ليبيا عدد الأخصائيين قليل، الخدمات محدودة، والأدوية في نقص دائم المرضى في أمسّ الحاجة لمن يشعر بهم ويمد لهم يد العون ربما لأنني مررت بتجربة شخصية مع المرض داخل أسرتي، شعرت بقيمة هذا التخصص، ولهذا اخترت أن تكون صبراتة محطتي.
وترى الدكتورة أن تخصص الأورام يفرض تواصلاً مستمرًا مع مختلف فروع الطب، حيث تضيف: ” الأورام لا تنحصر في جهاز واحد… نتعامل مع الأطفال، والعظام، والنساء، والباطنة كل التخصصات تمر من هنا بطريقة أو بأخرى.”
وحين سألناها عن لقائها الأول مع المرضى الجدد، قالت بأسى: “يصل المريض في حالة خوف شديد يسألني: هل هناك أمل؟ هل يستحق العلاج كل هذا العناء؟ وأنا لا أبيع الأمل الكاذب، لأننا نعيش واقعًا صعبًا أقول للمريض بصراحة: الرحلة القادمة ليست سهلة، لكنها ممكنة بإرادة الله ودعمنا لك.
وتضيف: ” لدينا عيادة خاصة لتخفيف الآلام، نحاول أن نخفف المعاناة، ولكن التحدي الأكبر نفسيًا بعض الحالات يصعب حتى التحدث معها، خاصةً حين نعلم أن الطريق سيكون موجعًا.
رغم مرور السنوات، هناك حالات تظل محفورة في ذاكرتها. تروي لنا:
“لن أنسى مريضة في عمر 33 عامًا، أراها كأختي. ولا أنسى شابًا عمره 24 عامًا، مصاب بورم نادر، لا يزال يقاوم، ونحن بجانبه بكل ما نملك هؤلاء الأشخاص يمنحونني القوة، رغم الألم الذي نعيشه معهم.
وكان لأسرة تحرير الصحيفة عدد من اللقاءات مع مرضى الأورام بدأت بالعم العيادي رجل تخطّى الخمسين من عمره، بدأ حديثه بجملة : “لكل شخص قصة، وهذي قصتي أنا…”
لم يكن يتوقع أن يبدأ الألم فجأة قال: “حسّيت بحاجة غريبة في الجهة اليمين من صدري، وبعدها صارتلي ذبحة صدرية، وبدأت نطيح من الوجع، خاصة في مفاصلي شوي شوي بديت نحس بضيق في التنفس، وبدأت الكحّة تزيد” .
كان العم مدخنًا في السابق، لكنه قرر الإقلاع منذ أربع أو خمس سنوات، ورغم ذلك استمرت الأعراض “الكحة كانت مصحوبة بدم… هنا شعر بالخطر.
ويضيف ” بدأت رحلة البحث عن العلاج، من مصحة إلى أخرى كل التحاليل كانت تقول ” كويس”، حتى قرر السفر إلى تونس، حيث تم أخذ عينة “قالولي عندك ورم… وبعدها مشينا لمصر، خذوا نفس العينة وأكدوا إنه ورم فعلاً ، في مصر، خضع العيادي لعدد ستة جلسات من العلاج الكيماوي، ثم عاد إلى ليبيا لاستكمال العلاج بالليزر “مشيت لشارع الزاوية، لكن بعدها قفل، فجيت لصبراتة وكملت الجلسات هني واليوم الأحد، ها هي أول جرعة لي في ليبيا بعد مصر.
لم يخفِ تجربته الصعبة مع العلاج في الخارج، في مصر كل شيء بفلوس، يقولك زيد وادفع، لكن في ليبيا الأمور أهون الحمد لله.
وفي ختام الحديث، سألته إن مرّ بلحظة استسلم فيها، فقال: “أكيد، وقت الكحة المصحوبة بالدم، حسّيت إنها النهاية… لكن بعدها بديت نتعالج ونضرب في الكيماوي، وتوّا الحمد لله.
و يروي مصطفى سليم مفتاح قصته مع المرض، وهي حكاية بدأت قبل عامين لكنها تركت أثرًا عميقًا في نفسه وحياته.
”أنا من مواليد بنغازي، لكني تنقلت في أكثر من مدينة، أولها كانت مصراتة، واليوم أعيش في صبراتة أهلها طيبون، لم أشعر بالغربة بينهم”، بهذه الكلمات بدأ مصطفى حديثه، وهو يحمل نبرة امتنان رغم ما مرّ به.
يسترجع بدايته مع المرض قائلاً: “من سنتين تقريبًا، شعرت بانسداد في أنفي أجريت عمليتين تحت العين، لكن الحالة رجعت أكثر من مرة العملية الواحدة في تونس كانت تكلف 50 ألف دينار ليبي، فقررت نجي لصبراتة، والحمد لله لقيت الخير فيها.”
رحلة العلاج لم تكن جسدية فقط، بل نفسية كذلك يقول: “تغيّرت حياتي… تنكدت، مرضت، وحالتي النفسية كانت تعبانة قعدت في الحوش أعاني من التوتر والزعل، لكن الحمد لله، توّا أحسن شوي.”
ورغم كل شيء، كان لأفراد أسرته، وخاصة بناته، دور كبير في منحه القوة “بنتي كانت السند، وكل مرة نحس بالضعف، نلقى دعمها حتى وقت الاستسلام، كانوا يقولوا لي: (خليها على الله)، وفعلاً خليتها عليه.
وصف مصطفى رحلته مع المرض بكلمات مختصرة لكنها معبرة: “رحلة صعبة وخطيرة.” ومع ذلك، أشار إلى تحسن واضح مع تقدُّم العلاج. “الحمد لله، فيه تحسن، شوي شوي نمشي للأفضل.”
ويضيف ” أكثر نصيحة أثّرت فيا خلال فترة العلاج كانت بسيطة لكنها عميقة: كلهم قالولي قوّي إيمانك، والحمد لله، هذا اللي صاير، أما عن الفريق الطبي المشرف عليه، فقال بإعجاب: “ما شاء الله، الله يبارك فيهم.”
وفي مدينة صرمان، حيث يعيش العميد الطيار مفتاح نجمي عامر، تتوقف الكلمات عند عتبة قصة استثنائية رجل قضى سنواته في سماء ليبيا، يحلق في مهام عسكرية ضد الغواصات، يجد نفسه اليوم في معركة من نوع آخر، معركة لا يخوضها في طائرة، بل في جسده، ضد مرض خبيث لم يُثنِ من عزيمته، ولم يُطفئ إيمانه.
يقول العم مفتاح وهو يروي تفاصيل قصته: ” أنا عمري 63 سنة، من سكان مدينة صرمان اكتشفت وجود ورم في الرئة اليمنى وفي اليسرى بدأت الأعراض بإسهال وقيء ، ولما أجريت الفحوصات، تبين وجود ماء على القلب تم تصريفه في احدى المصحات الخاصة ، بعدها توجهت إلى تونس حيث تم تركيب دعامتين في القلب ، وأخذوا عينة من الرئة اليمنى، وتبين أن الورم ناتج عن التدخين ، بعد أكثر من 45 سنة من الإدمان عليه” .
رغم شدة المرض، لم يتردد في اتخاذ خطوة شجاعة. “تركت التدخين تمامًا، وأقولها من القلب: التدخين شراء للموت لا أنصح به أحدًا، والحمد لله أن ربي مدّ في عمري حتى أكون ممن تابوا بصدق.
وبدأ مفتاح رحلته العلاجية من تونس، حيث خضع لأول جرعة من العلاج الكيميائي في سبتمبر 2024م ثم استمر العلاج في مركز الأورام بصبراتة.
وكان يآخذ جرعة كل 21 يوم، تتكون من ثلاث مواد، وبعد كل ثلاث جرعات يُجرى له تصوير بالأشعة المقطعية (الكمبيوتر) لمراقبة حجم الورم مع الجرعة السادسة، لاحظ الأطباء تحسنًا ملحوظًا، وانخفض حجم الورم تدريجيًا.
سألناه عن اللحظة التي يشعر فيها أنه بأفضل حال، فأجاب بابتسامة مطمئنة:” عندما أستشعر إيماني بالله هذا الإيمان هو الدواء الأول، وهو من يمنحني السلام والقوة في كل لحظة.”
أما عن نصيحته لمن يمرون بتجربة مشابهة، فقال:” أوصي الجميع بالمشي، وخاصة بعد الأربعين، والابتعاد عن التدخين أنا لم أعانِ من الضغط أو السكر، وكان ذلك فضل من الله ونتيجة رياضة المشي التي التزمت بها.”
ويقول السيد ميلود بشير وهو يستعيد بدايات رحلته: ” كنت أتلقى العلاج في مستشفى يفرن، ثم تم تحويلي إلى طرابلس مضت شهور وأنا أجهل طبيعة مرضي، لم يخبرني أحد بالحقيقة، وكل ما كنت أسمعه وعود وتأجيل ، لكن طرابلس لم تكن المحطة الأخيرة، بل كانت بداية لرحلة أكثر تعقيدًا طُلب منه الانتقال إلى تونس، وتحديدًا إلى مدينة جرجيس، وهناك سمع التشخيص الصادم: “أخبروني أنني مصاب بمرض خبيث، أعاذكم الله ، وأُجريت التحاليل الطبية، وتبيّن أن كلفة العلاج في تونس تفوق 21 ألف دينار ليبي، وهو مبلغ يفوق قدرته ، فكان القرار بالعودة إلى ليبيا لاستكمال العلاج داخل البلاد.
اليوم، يتلقى ميلود علاجه في مستشفى صبراتة، لكنه لم يخرج من دائرة الألم يقول: ” أكثر ما تغيّر في حياتي هو حال ساقي، أصبحت أعاني من ضعف شديد، إلى جانب انتفاخ في الحلق وتضخم في اللوزتين.” لم تعد حياته اليومية كما كانت، إذ فقد القدرة على ممارسة أنشطته المعتادة، وعلى رأسها تربية الحيوانات، التي كانت جزءًا من روتينه اليومي ومصدر رزقه.
رغم كل ما مرّ به، يتمسّك ميلود بالأمل، مستندًا إلى إيمانه بالله، وإلى دعم شقيقه الذي لم يتخلَّ عنه في أحلك الأوقات.
عندما سُئل عن وصف رحلته مع المرض، قال بصوت هادئ تختلط فيه المرارة بالصبر: “رحلة شاقة… أفقدتني الكثير. أشار إلى العبء المالي الثقيل الذي يفرضه العلاج، حيث تصل كلفة الجرعة الدوائية الواحدة إلى ما بين 2000 و2700 دينار، ناهيك عن تكاليف التحاليل والتصوير الطبي، التي تتراوح بين 600 و800 دينار.
قصص مثل هذه ليست حالة فردية، بل صورة تعكس معاناة الكثير من المرضى في ليبيا، ممن يواجهون المرض في ظل محدودية الإمكانيات، ويواصلون الكفاح بصبر وإيمان لا ينكسر قصص مثل هذه لا تُنسى لأنها ليست فقط عن الألم، بل عن الصبر، وعن القوة التي يسكنها الإيمان ، لذلك يجب على الجميع اتخاذ الإجراءات الوقائية والكشف الدوري عن الأمراض ، مع ضرورة متابعة وزارة الصحة الليبية وتوفير الأدوية والعلاجات في ظل تفاقم الأورام الفتاكة .