
في حضن الذاكرة الشعبية الليبية، طل علينا يوم عاشوراء، محمّلاً بعبق التراث وأصالة العادات التي تناقلها الأجداد جيلاً بعد جيل. إنه يوم ليس كباقي الأيام، يوم تختلط فيه الروحانية بنبض المجتمع، وتتعانق فيه مظاهر الفرح مع معاني البركة والتكافل.
شهد عبد الحفيظ
في كل بيت ليبي، يبدأ التجهيز للحتفاء بهذه العادات؛ فالأمهات تعكل على تحضير الهريسة بالقديد، وطبخ الفول والحمص، والبيض المسلوق وفي بعض المناطق العصيدة المغموسة في العسل والدبس، فتفوح الراوئح في الأزقة، بينما تُكحل عيون الأطفال، وتُقص أطراف جدائل شعورهن طلباً للبركة، مع الأهازيج التي يصدح بها الأطفال وهم يجوبون الحواري والأزقة وهم يرددون:
شو شباني يا باني ** هذا حال الشيباني
هذا حاله وأحواله ** ربي يقوي راسماله
عاشوره عاشورتي ** أمليلي داحورتي
داحورتي مليانة ** بالششي والعصبانة
وإللي ما تعطي الفول ** راجلها يولي مهبول
هو يومُ تُفتح فيه القلوبُ قبل الأبواب، وتتبادل فيه الأطباق والزيارات، وتُنسج خلاله خيوط المودة وصلة الرحم؛ فرغم مرور الزمن، وتغير مظاهر الحياة، ما زال يوم عاشوراء في ليبيا يحمل طابعًا خاصًا، يختزل في تفاصيله حكاية حب شعب لتراثه وهويته.
وبين الأمس واليوم، تبقى «عاشوراء» مناسبة تتجدَّد فيها الروحُ، وتُبعث فيها الحياةُ في الموروث الليبي العريق.
تحدث إلينا الحاج سالم قائلاً:
كنا نستعد لعاشوراء قبل أيام، النساء يقمن بتنظيف البيوت، وتبديل الأفرشة، ونجهز المأكولات الخاصة مثل : العصيدة بالرب، أو العسل، كانت سهرة عاشوراء تجمع الجيران، نتبادل الأطعمة ونتحدث عن القصص الدينية.
تحدثنا الحاجة مسعودة من سبها، فقالتْ :
في الجنوب، كانت عاشوراء مناسبةً لزيارة الأرحام، وتحضير أكلات خاصة مثل : الكسكسي باللحم، أو المرق الناشف. وكان الأطفال يطوفون على البيوت حاملين أكياسًا لجمع الحلويات والمكسرات.
تقول نجلاء من طرابلس :
ما زلنا نحافظ على بعض العادات مثل : تحضير العصيدة، وزيارة الأقارب، لكن مظاهر الاحتفال أصبحتْ أقل بريقًا، خاصة مع انشغال النَّاس بالحياة والعمل.
من بنغازي، حدثنا الشاب أكرم فقال :
بعض العادات اندثرتْ مثل: إشعال النَّار أمام البيوت، التي كانت رمزاً للتطهير، والبركة، لكنها لم تعد موجودة اليوم.
تقول الحاجة عائشة من طرابلس:
من أجمل عادات عاشوراء زمان، أننا نقوم بقص أطراف شعر البنات، اعتقادًا بأن هذا يجلب البركة، ونمو الشعر بشكل صحي، كما تضع الأمهات الكحل عيون الأطفال والبنات؛ حمايةً من العين وتفاؤلًا بالخير.
أما الحاجة زينب فتقول:
لا تكتمل عاشوراء دون إعداد الهريسة بالقديد «لحم العيد المجفَّف»، وهي أكلة خاصة تُجهّز ببهاراتها المميزة وتُعد رمزًا للبركة والاحتفال.
كان يومًا تنتشر فيه رائحة الهريسة في كل الأزقة.
ويضيف العم عمر من الجبل الغربي:
”قص الشعر والكحل عادة متأصلة، كانت الجدات يقمن بها صباح عاشوراء، مع تحضير العصيدة، والهريسة بالقديد، والجميع يتبادل الأطباق بين الجيران.
رغم أن بعض هذه العادات بدأت في الاندثار مع مرور الزمن، مثل قص الشعر والكحل، إلا أن العديد من العائلات الليبية ما زالت تحرص عليها كموروث شعبي له رمزية دينية، واجتماعية قوية، إلى جانب الأكلات التقليدية كـ)الهريسة بالقديد(، التي ما زالت حاضرة بقوة في مطابخ الأمهات والجدات.
تقول الحاجة فاطمة عبدالسلام :
عاشوراء عندنا يوم مميز، لا يمكن أن يمر دون تحضير العصيدة بالعسل والدبس. صباحًا نقوم بتكحيل الأطفال، وقص أطراف شعر البنات، ونعد ذلك جالبًا للبركة والصحة، كذلك نطبخ الهريسة بالقديد، وتكون فرصة لصلة الرحم، حيث تتبادل النساء الأطعمة مع الجيران.
يقول عمي علي :
إنّ تحضير الهريسة بالقديد من الطقوس الأساسية في عاشوراء، والنساء يتفنن في إعدادها.. كذلك يقوم الأهالي بقص شعر الأطفال ووضع الكحل لهم. في الماضي، كنا نذهب للجيران لتبادل الأكلات، ونصل الأرحام بشكل واسع، أما اليوم فبعض هذه العادات خفت لكنها لا تزال حاضرة.
تحدثت إلينا السيدة أم ياسين:
كنا زمان نشعل النَّار أمام البيوت ليلة عاشوراء، ونحكي للأطفال القصص الدينية.
النساء يقمن بتحضير العصيدة، والهريسة، وتُكحل عيون الأطفال صباح عاشوراء.
كما أن قص شعر البنات عادة لا تزال بعض الأسر تحافظ عليها.
يقول الحاج محمد الغرياني:
في الجبل الغربي، يوم عاشوراء يوم مبارك. بعد صلاة الفجر، نقوم بتكحيل الأطفال، وقص أطراف الشعر.. ونحضر العصيدة، والهريسة بالقديد. النساء يشرعن منذ الصباح في توزيع الطعام على الجيران والأقارب. كانت هناك عادة قديمة تتمثل في اشعال النَّار أمام البيوت، لكنها بدأتْ تختفي مع الزمن.
تقول الحاجة خيرية من سبها :
عاشوراء عندنا يوم فرح نقوم فيه بتحضير الكسكسي بالقديد والهريسة. من العادات الجميلة قص شعر البنات، وتكحيل الأطفال، إضافة إلى تبادل الأكلات وزيارة الأرحام. رغم أن بعض المظاهر قلت، إلا أن الأسر تحرص على الحفاظ على الأساسيات.
يحدثنا محمد الكيلاني:
يوم عاشوراء عندنا يوم مبارك. نحضر الهريسة والمرق الناشف، ونجتمع مع الأسرة الكبيرة. النساء يقمن بتكحيل الأطفال وقص أطراف شعر البنات، ونقوم بذبح الذبائح إن أمكن، وتوزيع جزء منها صدقة. زيارة المقابر صباحًا وقراءة الفاتحة على الأموات من العادات الثابتة.
تقول الحاجة أم أمحمد بالطبع، إليك خاتمة مناسبة لهذا الاستطلاع الصحفي:
ختامًا .. إن يوم عاشوراء في ليبيا ليس مجرد ذكرى دينية فحسب، بل هو مناسبة اجتماعية وروحية تعكس أصالة المجتمع الليبي، وتجسد قيم التكافل، وصلة الرحم، والحفاظ على الموروث الشعبي. وبين عصيدة الأجداد، وهريسة الأمهات، وكحل الأطفال، تبقى هذه العادات رسالة حب.