
عمر الكدي
وداعًا نجيب الحصادي .. وداعًا أيها المفكر الحر .. اليوم يرثيكَ العقلُ. وترثيك الحرية، ويبكي من أجلكَ الجمالُ والضمير.
رحل نجيب الحصادي…
أحمد يوسف عقيلة
إذا وصلني وقت الظهر فأول ما يبدأ بالصلاة قصرًا.. وفي برد الجبل الأخضر يمسح على جورب سميك.. ويقول باسماً: )طيبك سُنّة(.. وفي المساءات نمشي سويًا في الغابة المجاورة.. يشرع في الطبخ.. وجهاز الكمبيوتر على الطاولة.. يؤلف أو يترجم.. في بعض الأحيان يسألني عن صياغات جُملة.. أيها أفضل؟ يستدل «بهيجل» و«اسبينوزا» وابن تيمية والإمام الشافعي.. وبشعر المتنبي.. وأحياناً تعجبه غناوة، أو شتاوة فيشرع في تحليل بلاغتها.. وحين يقفز كالملدوغ أعرف أن وقت الصلاة قد حان.. يؤمّني في الصلاة لأنه يُقصر وأنا مقيم.. وفي سجوده يهمس: «اللهم استرني واغفر لي» .. شمله الله برحمته الواسعة
رثاء محب للفلسفة
يوسف الغزال:
اكتبوا على قبر المرحوم «نجيب الحصادي» هذا النص الذي جعله بوست حاضر في عقله وتفكيره وعلى لسانه وتعبيره، أستاذ المنهج نجيب الحصادي يضع دستورًا لتعريف الشخصية العلمية المدركة لضآلة العقل البشري أمام معارف الكون، فهو يقول لنا:
)مَنْ يدرك قدر سعة مجاله، ويعرف موضعه فيه، لن يمسّ نفسَه شيءٌ من كبر، ولهذا فإن من يغترّ بنفسه إما جاهل بمجاله، بما يعميه عن الدراية بضآلة ما أنجز فيه؛ أو جاهل بحقيقة نفسه، بما يجعله يتكلف ما لا يحسن، وفي الحالين أجدر به أن يشعر بصغر لا بكبر(.
نجيب .. وُلِدَ في درنة واغرته رائحة الفلسفة في كهوف الجبل الأخضر زمن مرقص، وتتبع آثار أقدام«أريتا أرستبوس»بنت قورينا الفيلسوفة الليبية ولدت، وعاشت في سفوح الجبل الأخضر عام 400 ق.م.
كانت السيدة «ريتا» أشهر مرأة فيلسوفة في العالم القديم وقضت 33 عاما من حياتها في تدريس الفلسفة ، كانت تحلم بتحقيق عالم من الاحرار حيث لاسادة ولاعبيد وعند وفاتها كتبوا رثاء على قبرها يصف جمال وجهها ونبل طبعها )إنها كانت تمتلك جمال إلهة الجمال «هيلين»، فضيلة ثيمرا، وروح من سقراط، ولسان هوميروس(.
تعد اشهر فيلسوفة في التاريخ، وتلميذة والدها ارستبوس القوريني، ولدت وترعرت في مدينة شحات وعاشت في الفترة من )400 – 340( ق . م، وأمضت 33 عامًا من حياتها في تدريس الفلسفة.
حدثٌ جلل يدفع لتوارد الأفكار والخواطر، هيا ندفن نجيب بإعتباره فيلسوفًا معاصرًا لمدرسة قورينا القديمة، ونكتب على قبره بعضًا من صفاته، أو قبسًا من نور كلماته.
عائشة الأصفر :
عصافير الحكمة لا تموت..
إنها تطير حيث سرّ اليقين..
ألف رحمة ونور.. العظيم نجيب الحصادي.
يمشي ولا يشبهه أحدًا
مفتاح العلواني:
اليوم وحين وصلني خبر وفاة نجيب ابتعلتُ لعابي بمرارةٍ بالغة.. بعدها بخمس دقائق رفعتُ الهاتف، وأخبرتُ أحمد يوسف .. ثم وجدتُ أنه قد حضر لحظتها .. سكت أحمد لثوان ثم طأطأ رأسه وبكى بحرقة .. كنتُ سأبكي برفقته.. لكنني شعرتُ بأن علي أن أحتضن أحمد فقط كما يفعل حين أبكي .. ثم انتباتني رغبة في قول كلمة لا أعرفها .. كلمة ذات صوت عالٍ.. كبيرة.. لا يسعها فمي .. ولا تكفي ربما لتخبر من حولي عن حجم الغصة.
)مرحبًا مفتاح.. طمني عنك(.
هكذا كان يسألني في كل اتصال بصوتٍ بعيد، وقريب جداً.. وبمحبةٍ لم يكن يبوح بها كعادته مع أحبته .. لكنها كانت تفيض منه عليهم.
هل تعرف نجيب؟
لا يمكنّني أن أحدثك عنه هكذا دون أن أبتسم.. أن تتزاحم الأفكار في رأسي.. أن تتراكم الفلسفة في ذاكرتي.. وتتدافع الأفكار على لساني.. كان نجيب فكرةً عظيمة تتدحرج وتتناثر منها الحكمة علينا.. كان حين نتحدث في أي أمر بجانبه قليلاً ما يتكلم .. لكنه حاضر الذهن معنا رغم أنه يكتب، أو يقرأ.. ثم يلتفت فجأة ليخبرنا بفكرة، أو معلومة، أو قصة عما نتحدث عنه لم يسبق لأحد معرفتها .. كان يختصر لنا كتباً لم نقرأها في جلسة واحدة .. وكان كما قال الشاعر مفتاح العماري :
)رجل بأسره يمشي وحيدًا( .. نعم رجل بأسره .. بفخامته وفلسفته وحكمته .. يمشي ولا يشبهه أحدًا.
نجيب كان ولياً صالحاً .. لا أذى يصل منه للآخرين، ولو بكلمة عابرة .. لا التفاتة تجرح الملتفت إليه.. )يمشي على مهل ويسبقنا( حتى في سيره إلى الله .. يطبخ لنا الطعام بنفس محبٍ عظيم .. ونأكله ونحن نمدح قلبه المكتظ بن .. يعمل أكثر مما يعمل شاب في عشرينياته .. لا ينفك يفتش عن الإجابات.. وفي كل مرةٍ يسقط فيها حجر من الشك في روحه.. تطير أسرابٌ من اليقين بعيدًا .. هكذا هو .. متنٌ على صفحة الأيام.. والبقية هامش له.
لقد غادرتنا بشكل فاجع يا رجل .. كان الأمرُ كمن خرق أحدهم أيامنا فانسكبتْ منها الطمأنينة.
يا رب .. أعنّي على يدي .. يدي التي صارتْ ثقيلة جدًا.. وأنا لازلتُ أدّخرها لوداعات كثيرة.
مربوحة يا نجيب..
مربوحة طريقك وزينة.
سيبقى اسمك
عبدالحميد بطاو:
هناك من يموت ألف مرة
من قبل أن يموت
وبعضهم يحس ألف غصة قاتلة فى حلقه
لأنـه فى لحظـة الكـلام
والمواجهات
اختار ان يلتزم الســكوت
وأنت ياسيدنا
كنت مواجهًا وصـادقـًاوتبتسم
وتكـتم الألــم
ولا تقـول للذين اتخذوك رائـدًا
إنـى أخــاف المــوت
وهكذا سيبقى اسمك الحبيب
أنسـًا دائمــًا
وملهـمـًا للذكــر
لحـظة الصلاة والقـنوت
كتاب مفتوح
سالم العبار :
البذرة الصالحة يدفنوها فتنمو، إنها جدلية البذرة والتراب مستهل التخلق والبقاء والنماء؛ فالتراب أصل التخلق من البشر إلى الشجر فكلنا بذور وإن اختلف الثمر والجماد، والبشر يظل أسمى استحقاق أن تلتقي الأرض بالسماء. انه الاشتياق للقاء منذ الانفجار الكبير ومنذ تلك الحقبة كان الالتقاء بين الأرض والسماء في حبات المطر في البخر في تنفس الشجر، وفى فعل الخيرين من البشر فمنا من حين يموت نقول )إننا دفناه( ومنهم من نقول )لم ندفنه ولكنّنا زرعناه واسألوا عن الشهداء الذين في الأرض كانوا بذورًا فبلغوا السماء، فالمساحة من هنا إلى هناك هي الطريق إلى الاكتمال بلقاء الخالق هو توق وجداني لا إرادي تذكيه وقدة ربانية بما نفخه الله في البشر من توق للبقاء لذا فان العلاقة بين الشجر والخيرين من البشر كتاب مفتوح للتفاني والإيثار والعطاء فكلاهما يموت واقفًا ويصد العواصف ويمنح الدفء والظل ومن هنا طالعنا وجوه الخيرين من البشر وأنتَ منهم دكتور نجيب الحصادي لا نقول وداعًا ولكن إلى لقاء.
عقل ليبي جميل
نورالدين الورفلي:
رحل عنقودُ البهجة، رحل صديقنا الوفي نجيب الحصادي النبيل، ولا أظنني سأسمع بعده من يناديني باللقب المحبب لدي: )نويرة( هكذا كان يناديني حين يهاتفني، وحين يراسلني، وحين نلتقي، ونويرة كانت أمي هي الوحيدة رحمها الله، قبل نجيب من يناديني بهذا الاسم تحبباً.
عقل ليبي جميل طرح مشروعات في الفلسفة غاية في الأهمية، وترك مؤلفات كثيرة وتراجم كثيرة أيضاً، وكان في أوج عطائه، ولديه مشروعات أخرى لم يأذن القدر أن تتم، ستحزن جامعاتنا الليبية والعربية على فقده لأنه لم يترك جهدًا في دعمها بالدروس، والكتب، والمحاضرات، والندوات، والمؤتمرات.
كان محبًا ومؤديًا لوجباته الدينية والروحية والدنيوية.
اللهم اغفر له وارحمه واكرم نزله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الراحلون يتركون فراغًا كبيرًا
عبدالله علي عمران:
مشكلة بلد مثل ليبيا أنه بلد عقيم، لا يمكنه تعويض خسائره الصغيرة فما بالك بالخسائر الكبرى.
الراحلون يتركون فراغًا كبيرًا، ويتركون حسرة أكبر لعلمنا يقينا أن الزمانَ لا يجود بمثلهم .. إن الزمانَ بمثلهم لبخيل.
مشكلة بلد مثل ليبيا ليس أنه بلد عقيم وحسب، بل بلد جاحد وفاشل، يتنكر لمبدعيه الذين لا فضل له في تحقيق نجاحاتهم، كما أنه لا يستفيد من تلك النجاحات.
بلد فيه الهامش أكبر من المتن، لأنه يضع الأفذاذ والمبدعين في الهامش، ويضع السفهاء في المتن.
رحل نجيب الحصادي، دون أن يترك مشروعًا فكريًا، أو فلسفيًا واضحًا متكامًلا، شأنه شأن النيهوم، ليس لعيب فيه، بل لسوء طالعه أنه ولد في بلد لا يؤمن بالمشاريع، ولا توجد فيه مشاريع يمكن للمفكر أن ينخرط فيها، لذلك على المفكر أن ينجز مشروعه الخاص من العدم، وهو أمرٌ أكبر من أن ينجزه مفكر بمفرده، وحسب نجيب أنه غادر وهو يحاول أن يؤسس لذلك المشروع ويحدّد ملامحه.
رحل نجيب وهو لا يتقلد منصبًا ولا يحمل أي صفة رسمية، ولكنه ترك مكتبة فلسفية، ونموذجًا فكريًا، بينما يتقلد المناصب ويحمل الصفات السفهاء.
قنديلٌ آخر يُطفأ
نجاح مصدق:
يا لهذه البلاد الحزينة…
يُطفأ قنديلٌ آخر في لياليها المعتمة.
يفارقها الحصادي، بصمت الفلاسفة،ووجع العارفين.
أي يتمٍ هذا يصيبكِ أيتها البلاد؟
أبكي سؤالًا غادر
عبد الرسول محمد
قرأتُ له )معيار المعيار، وتقريظ العلم(، وقضايا فلسفية وشاهدتُ بعض الحوارات، واللقاءات، وتبادلتُ معه محادثات تُعدّ على الأصابع عبر «الماسنجر».
سألتُه ذات مرة: هل للصدفة قانونٌ؟ وسألته عن العلاقة بين الصدفة، والمعجزة، وسألته عن اللغة، والهوية، وعن من يفقد هويته إذا ما تحدّث بلغةٍ أخرى.
قليلٌ ما قرأتُه، ولم ألتقِ به يومًا، لكنّني أحببته.
وكل ما أستطيع قوله الآن: إننا أصبحنا أكثر عُريًا أمام الجهل، والخوف، والتقليد، وإنني لا أبكي رجلًا فقط، بل أبكي سؤالًا غادر، سؤالًا لن يُطرح بعده أيُّ سؤالٍ في شوارع هذه البلاد الفاسدة.
نعم .. نحن الآن أكثر عُريًا، لأن من كان يُحاجج الجهل بالحُجّة، لم يعُد هنا.. ومن كان يُربّت على أكتاف الحيارى، لم يعُد يُجيب.
ومن كان لا يخجل من أن يقول )لا أعرف( في زمن الادّعاء، قد صمتَ إلى الأبد.
إلا أنني أقول:
من كان يُحبّ نجيب، فليقرأ.
فليحمل مصباح السؤال، ويمضي.