
بين دموع الفرح والخذلان، وبين صمت الصدمة وضجيج الاستنكار، خرجت نتائج الشهادة الثانوية العامة لهذا العام كزلزال هزّ البيوت الليبية من أقصاها إلى أقصاها. فما بين طلبة اجتهدوا وسهروا الليالي ليجدوا أنفسهم في قائمة «الراسبين»، وآخرين صدموا من «درجات تعويض» لا تسمن ولا تغني، ضاع جهد عام كامل بين أخطاء الأسئلة، صعوبة بعض المواد، وظاهرة الغش الجماعي.
في المدارس الخاصة: طلبة بالكاد حضروا، وأسئلة لم يدرسوها، ومناهج غير مكتملة، لكنهم فجأة يتصدرون قوائم الأوائل ..!
هنا تبدأ الحكاية المُرة:
- مدارس خاصة أقفلتْ قبل نهاية السنة بشهور.
- أساتذة يعترفون بأن أعمال السنة «مقفّلة مسبقًا»،
- طلبة يُهدى لهم التفوق كأن النجاح سلعة تُباع في سوق تعليمية موازية.
فكيف تفوّق من لم يتعلّم؟ وكيف رسب من لم ينم؟
وهل تحوّلَ التعليمُ في ليبيا إلى مباراة محسومة النتيجة قبل صافرة البداية؟
في هذا التحقيق، نرصد قصصًا حقيقية، ردود أفعال غاضبة، آراء تربويين وأساتذة كوسات، ومناشدات أولياء أمور يبحثون عن إجابات لأسئلة تؤرقهم: من يعوّض أبناءهم؟ ومتى يُعاد الاعتبار للطالب المجتهد في هذا الوطن؟
مدارس خاصة.. تفوّق مشبوه؟!
من بين المفارقات اللافتة في نتائج هذا العام، أن أغلب الطلاب الأوائل جاؤوا من المدارس الخاصة، رغم أن العديد من تلك المدارس، حسب شهادات طلاب ومعلمين، أغلقت أبوابها مبكرًا أو لم تلتزم بخطة تعليمية واضحة!
يقول الطالب محمد.ع
«أنا نقرأ من 8 الصبح للساعة 2 ظهرًا، وجداول دراسية ومراجعات شهرية. وطلعت نتيجتي متوسطة، بينما طالب من مدرسة خاصة كان في الحوش أكثر من المدرسة، طلع من الأوائل! هذي عدالة؟»
أما الأستاذ عبدالرؤوف خبير تربوي، فيقول:
هناك علامات استفهام كبيرة حول آلية حساب درجات أعمال السنة في المدارس الخاصة. كثير من هذه المؤسسات أصبحت توزع الدرجات كـ«هدايا» لتحسين سمعتها وجذب أولياء الأمور، دون وجود تقييم حقيقي وأضاف:أعمال السنة في بعض المدارس الخاصة مغلقة بالكامل أو محسومة مسبقًا، ما يُسقط عنها مصداقية التقييم. والمصيبة أن الوزارة تعلم، وتصمت!»
يقول الأستاذ على حسن مدير مدرسة سابقة ومتابع للملف التربوي:
«نحن أمام خلل عميق في فلسفة التقييم. من غير المعقول أن يكون طالب مجتهد في مدرسة عامة بالكاد ينجح، وطالب نائم في مدرسة خاصة متصدر القائمة! هذا يزرع الإحباط ويقتل مبدأ المنافسة الشريفة.»
وأضاف:
«إذا لم تتدخل الوزارة بصرامة في تنظيم أعمال السنة ومراقبة المدارس الخاصة، فإننا سنشهد مزيدًا من الانهيار الأخلاقي والتعليمي في الأعوام القادمة للوزارة: العدالة أولاً!
الناس لا تطلب معجزات، بل تطلب عدالة واحدة تطبّق على الجميع. كيف لطالب أن يقضي سنته بين الكتب ولا يرى اسمه في قوائم الناجحين، بينما زميله الذي لم يحضر ربع الحصص يحتفل ضمن الأوائل؟
الشكوك تتزايد، والغضب يكبر.. فهل من مجيب؟ بكيت أكثر مما بكيت يوم فقدت أمي!»
بهذه العبارة بدأت الطالبة م.أ حديثها، وهي تروي كيف استقبلت نتيجة رسوبها في مادة الفيزياء رغم أنها كانت من المتفوقين في السنوات السابقة:
«امتحان الفيزياء جاء صادماً. نصف الأسئلة من خارج المقرر، وحتى الأستاذ الذي درسنا تفاجأ بالمحتوى. درست، اجتهدت، وتوقعت أن أتحصل على ممتاز، لا أن أرسب!»
وأضافت بصوت مختنق:
«أنا ضحية لا أكثر. هناك خطأ، وهناك من يجب أن يحاسب، لا أن يُترك الأمر وكأنه لا شيء.»
الفيزياء والكيمياء والإحصاء.. مثلث الرعب!
لا يُخفى على أحد أن امتحانات هذا العام، وخاصة في مواد الفيزياء، الكيمياء، والإحصاء، كانت محل استياء واسع. يقول الأستاذ خالد معتوق وهو مدرّس في أحد أشهر مراكز الكورسات في طرابلس:
«وصلتنا عشرات الرسائل من طلاب مصدومين. أسئلة الفيزياء كانت مخصصة لطلبة دراسات عليا وليس ثانويين! أسئلة الكيمياء أيضًا كانت تعتمد على الحفظ الجامد والتفاصيل الثانوية. أما الإحصاء، فكان أقرب لفك شيفرات رياضية.»
درجات التعويض.. عدالة أم خدعة؟
أحد أولياء الأمور، السيد عبدالسلام مدير مدرسه عبّر عن استيائه من نظام درجات التعويض قائلاً:
«ابني تحصل على 48 في مادة الرياضيات، وفُرض عليه أن يُعوّض بدرجاته في مواد أخرى! لماذا؟ أليس هذا ظلماً؟ كيف يُربط مستقبل طالب بمادة واحدة؟»
ويضيف:
نحن لا نطلب النجاح المجاني، بل نطالب بعدالة الأسئلة، وعدالة التصحيح، وعدالة التقييم.»
أساتذة الكورسات: نتحمل اللوم أم الوزارة؟
الأسماء عمر أستاذة كورسات في مادة الأحياء، قالت إنّ الاتهامات التي تُرمى على أساتذة الدروس الخصوصية غير عادلة:
«نحن نكمل عجز المنهج. الوزارة لم توفر مراجعات كافية ولا دعمًا نفسيًا للطلبة، ثم يُقال إننا نعلّم بطريقة الحفظ فقط! نحن جزء من النظام، لكن المشكلة أعمق: في وضع تربوي منهار، وفي وزارة لا تسمع.»
الطالب وجدي كنت أدرس 14 ساعات يوميًا، حرمت نفسي من كل شيء. والدي مريض، وكنت أحلم أن أصبح طبيبًا. رسبت في الكيمياء، وضاع كل شيء. الآن أفكر في ترك الدراسة والعمل!»
الطالبة إسراء «كنت أراجع مع زميلاتي وأشرح لهن الدروس. لا أتوقع ما حدث. أخشى أن يكون هناك خطأ في التصحيح. سأقدم تظلمًا، وأطالب بإعادة التصحيح.»
أعيدوا لابني حقه!
في إحدى المدارس بطرابلس، وقفت سيدة تبكي تهمس بوجع:
«ابني لم يعرف النوم، اجتهد وتعب، وفي النهاية راسب! أليس في هذا ظلم؟ من سيعيد له ثقته بنفسه؟ كيف أشرح له أن الرسوب لا يعني الفشل؟»
الغش.. سلاح ذو حدين!
الغش هذا العام بلغ حدًّا خطيرًا، حيث لجأ بعض الطلبة إلى مجموعات سرية على واتساب وتيليغرام لمشاركة الإجابات. وهذا ما أثار حفيظة بعض الطلبة المجتهدين:
«نحن من اجتهدنا، وهم من نجحوا! هذه عدالة معكوسة» هذا ما قالته الطالبة سمية .
ناشطون وتربويون طالبوا عبر مواقع التواصل بتشكيل لجنة محايدة للتحقيق في الامتحانات، ونشر تقرير مفصل عن:
نسبة الأخطاء في الأسئلة.
مدى مطابقتها للمنهج.
عدد التظلمات المقدمة.
خطط الوزارة لمعالجة الآثار النفسية.
نتائج الثانوية العامة ليست مجرد أرقام تُعلّق على الجدران، بل هي أقدار ترسم مصير جيل بأكمله. والرسوب اليوم، إن لم يُفهم ويُعالَج، قد يخلّف جراحًا عميقة تمتد إلى ما بعد مقاعد الدراسة.
الكرة اليوم في ملعب الوزارة: إما أن تراجع نفسها، أو أن تستعد لاستقبال جيل مهزوز، فاقد للثقة، لا يرى في التعليم وسيلة للنجاح.. بل للخذلان.