ثقافة

العباني‭ .. ‬خلاصة‭ ‬جيل‭ ‬ثقافي‭ ‬مفرط‭ ‬النزاهة

مفتاح‭ ‬العماري

تأتي‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬المتواضعة،‭ ‬للاحتفاء‭ ‬بإرث،‭ ‬الفنان‭ ‬الكبير‭:‬‮ ‬علي‭ ‬العباني،‭ ‬ممثلاً‭ ‬في‭ ‬مراكمته‭ ‬لتجربة‭ ‬نوعية‭ ‬استثناء،‭ ‬وفي‭ ‬شخصه‭ ‬كمبدع‭ ‬فذّ‭ ‬تفانى‭ ‬بشغف‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭ ‬في‭ ‬اخلاصه‭ ‬لصناعة‭ ‬الجمال‭.‬

لعلنا‭ ‬سنفلح‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬في‭ ‬تذكير‭ ‬أنفسنا،‭ ‬بأهمية‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالفن‭ ‬عمومًا‭ ‬كضرورة‭ ‬يعول‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬لمعركة‭ ‬تحديث‭ ‬المجتمع،‭ ‬وفي‭ ‬آن‭ ‬بوصفها‭ ‬تكريمًا‭ ‬مستحقًا‭ ‬وبامتياز،‭ ‬لتجربة‭ ‬أصيلة‭ ‬ومسيرة‭ ‬فنية‭ ‬مشرّفة‭.‬

‭ ‬نكن‭ ‬لها‭ ‬احترامًا‭ ‬خاصًا؛‭ ‬فلطالما‭ ‬كانت‭ ‬مبعث‭ ‬فخر‭ ‬واعتزاز‭ ‬جليلين‭ ‬بمنجزها‭ ‬وموقعها‭. ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وأن‭ ‬الفنان‭ ‬الكبير علي‭ ‬العباني‮ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المؤسسين‭ ‬الأكثر‭ ‬عطاءً‭ ‬ومراكمة،‭ ‬وبفعالية‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬صعود‭ ‬حركة‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

مبدع‭ ‬ذو‭ ‬خصوصية‭ ‬فنية‭ ‬وهبت‭ ‬تجربته‭ ‬تلك‭ ‬الفرادة‭ ‬التي‭ ‬تضعه‭ ‬في‭ ‬الخانة‭ ‬الاستثناء‭ ‬كفنان‭ ‬دربة‭ ‬لا‭ ‬تعوزه أصالة‭ ‬الفن‭ ‬ورهبنته‭. ‬وهو‭ ‬دونما‭ ‬ريب‭ ‬يندرج ضمن الندرة‭ ‬الذين‭ ‬كرسوا‭ ‬حياتهم‭ ‬كلية‭ ‬لانشغالات‭ ‬الرسم‭.‬

وأضفوا‭ ‬عليه‭ ‬بصمات‭ ‬بيئية‭ ‬عزَّزتْ‭ ‬رسوخ‭ ‬هويته،‭ ‬وجعلته‭ ‬أكثر‭ ‬ارتباطًا‭ ‬بذاكرة‭ ‬المكان،‭ ‬ولعلّ‭ ‬قراءة‭ ‬أرثه؛‭ ‬وبالأخص‭ ‬نلك‭ ‬المساحة‭ ‬اللونية‭ ‬التي‭ ‬استأثرت‭ ‬بها‭ ‬قريته‭ ‬‮«‬قومن‮»‬،‭ ‬لهي‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬تأكيد‭ ‬هذا‭ ‬الرسوخ،‭ ‬وما‭ ‬يقف‭ ‬خلفه‭ ‬من‭ ‬طموح‭ ‬التجديد‭ ‬والاضافة‭ ‬والفاعلية؛‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬فن‭ ‬الرسم‭ ‬نسيجيًا‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالمخيال‭ ‬الجمعي،‭ ‬وفرعًا‭ ‬من‭ ‬منظومة‭ ‬الجمال‭. ‬بحيث‭ ‬سيتعذر‭ ‬على‭ ‬تصورات‭ ‬أي‭ ‬مشروع‭ ‬ثقافي‭ ‬وطني‭ ‬التحقق،‭ ‬مالم‭ ‬تضع‭ ‬في‭ ‬حسبانها‭ ‬ضرورة‭ ‬الانهمام‭ ‬بتربية‭ ‬الذائقة‭ ‬العامة‭ ‬على‭ ‬تعاطي‭ ‬فن‭ ‬الرسم‭ ‬وتنمية‭ ‬صناعته‭. ‬لكن‭ ‬قدر العباني،‭ ‬ومسار‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬ليبيا؛‭ ‬أنه‭ ‬خضع‭ ‬لسوء‭ ‬الطالع‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يكابده‭ ‬مبدعو‭ ‬الجهات‭ ‬المتخلفة‭ ‬من‭ ‬جغرافية‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭. ‬عندما‭ ‬تغيب‭ ‬المحفّزات،‭ ‬ويُواجه‭ ‬الفنان‭ ‬بالجحود‭ ‬والنكران،‭ ‬وتهميش‭ ‬موقعه؛ والتقليل‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬تنمية‭ ‬الوجدان‭. ‬ولعلّ‭ ‬ما‭ ‬تشهده‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬مناهجنا‭ ‬الدراسية‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬لخير‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬مؤسسات‭ ‬التعليم‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬اغفال‭ ‬مواد‭ ‬التربية‭ ‬الفنية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حتى‭ ‬عقد‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الأهمية؛‭ ‬لتأخذ‭ ‬حيزها‭ ‬ضمن‭ ‬المقرَّر‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬التعليم‭ ‬الأساسية؛‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يترتب‭ ‬عنها‭ ‬الرسوب‭ ‬واعادة‭ ‬سنة‭ ‬دراسية‭. ‬بينما‭ ‬تخضع‭ ‬في‭ ‬لحظتنا‭ ‬الراهنة‭ ‬لمزاج‭ ‬شعبوي‭ ‬ريبي،‭ ‬يغرس‭ ‬لدى‭ ‬الناشئة‭ ‬تحريم‭ ‬فن‭ ‬الرسم‭. ‬ينسحب‭ ‬الشأن‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬فنون‭ ‬النحت والرقص‭ ‬والموسيقى‭. ‬مما‭ ‬مهّد‭ ‬لخلق‭ ‬ذهنية‭ ‬شعبية‭ ‬معادية‭ ‬للجمال‭. ‬إن‭ ‬هكذا‭ ‬تصورات‭ ‬للعملية‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬عفوية‭ ‬أو‭ ‬ممنهجة؛‭ ‬ساهمت‭ ‬دون‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬واقع‭ ‬خشن‭ ‬وعدائي‭ ‬لا‭ ‬محل‭ ‬فيه‭ ‬لمخيلة‭ ‬الرسام‭ ‬والشاعر‭ ‬والموسيقار‭. ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬غرابة‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬حركة‭ ‬الفنون‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الرسم‭ ‬من‭ ‬اهمال‭ ‬واقصاء‭ ‬على‭ ‬المستويين،‭ ‬الرسمي‭ ‬والأهلي‭. ‬فعوض‭ ‬أن‭ ‬تكرّم‭ ‬مسيرة‭ ‬الفنون‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬رموزها‭ ‬ممن‭ ‬أسهموا‭ ‬في‭ ‬التأسيس‭ ‬والاضافة،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬من‭ ‬كرس‭ ‬كامل‭ ‬حياته،‭ ‬مخلصا‭ ‬لخدمة‭ ‬الابداع‭ ‬التشكيلي،‭ ‬مثل‭ ‬الفنان علي‭ ‬العباني،‭ ‬نجدها‭ ‬تتعرص‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬الجحود‭ ‬والتجاهل‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬جراء‭ ‬انعدام‭ ‬سياسات‭ ‬الحداثة‭ ‬الثقافية؛‭ ‬لتفضي‭ ‬المحصلة‭ ‬الى‭ ‬مجتمعات‭ ‬غير‭ ‬مؤهلة‭ ‬لحضانة‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬بوجود‭ ‬شخص‭ ‬الفنان‭ ‬ضمن‭ ‬مكونها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ثقافيا‭. ‬أجل،‭ ‬سيعد‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬الطالع؛‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬وحشيّ‭.‬

من‭ ‬مباهج‭ ‬الصدف‭ ‬الموضوعية‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬سانحة‭ ‬جعلتني‭ ‬أتعرف‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬‮ ‬بالفنان‭:‬‮ ‬علي‭ ‬العباني‮ ‬كانت‭ ‬بتونس‭ ‬العاصمة،‭ ‬أواخر‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬ضمن‭ ‬لفيف‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬والمبدعين‭ ‬الليبيين‭ ‬في‭ ‬استضافة‭ ‬من‭ ‬التلفزيون‭ ‬التونسي‭. ‬ولقرابة‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬الرفقة‭ ‬الطيبة،‭ ‬لا‭ ‬مستُ‭ ‬مدى‭ ‬ما‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬نبل‭ ‬إنساني،‭ ‬وتلك‭ ‬الكاريزما‭ ‬التي‭ ‬اكتسبها‭ ‬من‭ ‬طبيعته‭ ‬المتسامحة‭ ‬والودودة‭. ‬واستعداده‭ ‬الدائم‭ ‬لمؤازرة‭ ‬الأصدقاء‭.‬

‭ ‬الفنان‭ ‬الكبير‭:‬‮ ‬علي‭ ‬العباني،‭ ‬يمثل‭ ‬خلاصة‭ ‬جيل‭ ‬ثقافي‭ ‬ليبي‭ ‬مفرط‭ ‬النزاهة،‭ ‬يوشك‭ ‬على‭ ‬الانقراض‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تفتقده‭ ‬غالبية‭ ‬الأجيال‭ ‬اللاحقة‭ ‬من‭ ‬المشتغلين‭ ‬بالفنون‭ ‬والآداب‭ ‬حيث‭ ‬التكالب‭ ‬على‭ ‬ايثار‭ ‬الذات‭ ‬وتغليب‭ ‬المصالح‭ ‬الشخصية؛‭ ‬كمظاهر‭ ‬صارت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬سيمياء‭ ‬السطخ‭ ‬الهش‭ ‬بمشهدنا‭ ‬الثقافي‭ ‬الوطني‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬حين‭ ‬يتنحى‭ ‬الجمال،‭ ‬متخليًا‭ ‬عن‭ ‬موقعه،‭ ‬لهحمة‭ ‬ثقافة‭ ‬القبح‭. ‬فطوبى‭ ‬للفنان علي‭ ‬العباني،‭ ‬الذي‭ ‬مهما‭ ‬حاولنا‭ ‬انصافه؛‭ ‬فلن‭ ‬نفيه‭ ‬سوى‭ ‬القليل‮ ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى