
في بلدٍ يطفو على بحرٍ من النفط والغاز، كان من المفترض أن تكون الحياةُ أكثر استقرارًا ورفاهيةً، لكن الواقع في ليبيا يسير في الاتجاه المعاكس. فمنذ سنوات والعُملة المحلية في هبوطٍ حاد أمام الدولار، ما انعكس مباشرة على أسعار )السلع الأساسية، والدواء، والخدمات(، وحتى على العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الليبي.
اليوم لم يعد الحديثُ عن «ارتفاع الدولار» مجرد مسألة اقتصادية، بل تحوّل إلى أزمة نفسية، واجتماعية تمس كل بيت ليبي.
الفجوة الطبقية: من الثراء الفاحش إلى الفقر المدقع.
أكبر نتائج انهيار الدينار أمام الدولار كانت الفجوة الاجتماعية، ففي الوقت الذي يزداد فيه ثراء قلة قليلة قادرة على استغلال السوق السوداء وتحويلات العُملة، تتسع دائرة الفقراء الذين لا يستطيعون مجاراة الأسعار.
تشير بيانات مصرف ليبيا المركزي إلى أن الدينار فقد أكثر من 70% من قيمته خلال العقد الأخير، الأمر الذي جعل متوسط مرتب الموظف الحكومي، البالغ حوالي 1000 دينار شهريًا، لا يغطي سوى حاجات أسبوع واحد من المعيشة إذا ما تم تحويله بالدولار.
هذا التفاوت خلق شعورًا بالظلم الاجتماعي، حيث أصبح )المال هو الفاصل بين الطبقات(، وأدى إلى انكماش الطبقة الوسطى التي كانت تاريخيًا صمام أمان المجتمع الليبي.
الأثر النفسي: من القلق إلى محاولات الانتحار
لم تعد الأزمة مجرد أرقام تُتداول في نشرات اقتصادية، بل أصبحت تعكس نفسها في نفسية المواطن.
الضغوط الاقتصادية وغياب الأمل دفعًا بالكثير من الشباب إلى الهروب نحو المخدرات، أو المغامرة عبر الهجرة غير الشرعية، أو حتى التفكير في الانتحار كخيار نهائي.
التقارير الطبية والنفسية الأخيرة في مستشفى طرابلس المركزي تشير إلى زيادة حالات الاكتئاب الحاد بنسبة تتجاوز 40% خلال السنوات الأخيرة، وارتفاع غير مسبوق في محاولات الانتحار بين الفئة العمرية )18 – 35 سنة(.
هذا الواقع يضع أمامنا مؤشرًا خطيرًا: أزمة الدولار لم تعد قضية مال فقط، بل مسّتْ جوهر الصحة النفسية للمجتمع.
الجريمة والانحراف: شباب بين مطرقة الغلاء وسندان «الموضة»
لا يمكن إغفال الجانب الاجتماعي. فالشباب الليبي، الذي يجد نفسه عاجزًا عن توفير أساسيات الحياة، أو مجاراة «الموضة» العالمية، كثيرًا ما ينزلق نحو الجريمة والانحراف.
الشرطة القضائية في طرابلس وبنغازي سجّلت في العامين الأخيرين ارتفاعًا بنسبة 30% في قضايا السرقة والسطو المسلح، بينما انتشرتْ ظواهر خطيرة مثل : تجارة المخدرات والاحتيال الإلكتروني كوسائل بديلة «لتحقيق الثراء السريع».
وبينما يبحث بعض الشباب عن الهروب من الواقع عبر «الجردينة»، أو الانغماس في الكماليات، يجد آخرون أنفسهم أمام خيار العمل في المهن الهامشية، أو الانخراط في شبكات غير مشروعة.
الخدمات الصحية: الدواء خارج متناول المواطن
من أخطر انعكاسات الأزمة أيضًا أنها ضربتْ مباشرة قطاع الصحة. ارتفاع الدولار جعل من أسعار الدواء المستورد أرقامًا فلكية، وحوّل فكرة العلاج في الخارج إلى «حلم بعيد المنال».
تؤكد تقارير وزارة الصحة أن أكثر من 60% من الأدوية الأساسية مفقودة من الصيدليات العامة، بينما يلجأ المواطنون للسوق السوداء حيث الأسعار مضاعفة ثلاث مرات.
أما مرضى الأورام والفشل الكلوي، فقد أصبحوا الضحية الأكبر، إذ لا يجدون العلاج الكافي ولا إمكانية للسفر، الأمر الذي دفع بعضهم لمخاطبة الإعلام علّ صوتهم يصل إلى المسؤولين، لكن دون جدوى.
الإعلام: صوت يصرخ في وادٍ سحيق
منذ بداية الأزمة، لم يقف الإعلام الليبي مكتوف الأيدي.
صحيفة «فبراير» وغيرها من المنابر الصحفية حاولتْ مرارًا دق ناقوس الخطر، عبر تقارير وتحقيقات معمقة تكشف خطورة ارتفاع الدولار وتبعاته الاجتماعية والنفسية.
لكن المعضلة الكبرى أن هذه الأصوات لم تجد آذانًا صاغية لدى المسؤولين. السلطة الرابعة، التي يفترض أن تكون عين المواطن ولسانه، وجدت نفسها تصرخ في فراغ.
ناقوس الخطر: هل من مجيب ؟!
ارتفاع الدولار في ليبيا لم يعد مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل تحوّل إلى تهديد حقيقي لبنية المجتمع واستقراره. من الانتحار إلى الجريمة، ومن المرضى المحرومين من الدواء إلى العائلات الغارقة في الفقر، كلها مظاهر تدل على أن الأزمة وصلت إلى مرحلة اللاعودة.
في بلد يملك أكبر احتياطات نفطية في إفريقيا، من غير المقبول أن يظل المواطن يعاني من فقدان أبسط مقومات العيش الكريم. الأزمة لم تعد تحتاج إلى مقالات، أو مناشدات، بل إلى حلول عملية عاجلة: إصلاح مالي، ضبط سوق العُملة، دعم مباشر للفئات الأكثر ضعفًا، وإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى.
الوقت يمر، والناقوس يدق. السؤال: هل هناك مَنْ يسمع قبل أن تتحول الأزمة إلى انفجار اجتماعي شامل؟!.