فصل من رواية عيون الطرابلسيات الحزينة

اراني في مرأة لا اعرف أين بالضبط، ولكنها مرأة في بهو فندق أو مقهى او مطعم، وتظهر في المرآة خلفي بالضبط امرأة في عقدها الخامس .. «اعرفها»، تتحدث للرجل الذي يقابلها وتحرك يديها وكأنما ترقص بهما بدل جسدها المختبيء خلف الطاولة، ولا يظهر من المقابل لها إلا ظهره ورأسه وأذناه .
ادقق في الأذنين واتفحصهما مرة وثلاتة، وخمس مرات ثم أنهض واقترب من المرآة مبتعدًا عن المقابل لها كي ارى اذنيه عن قرب اكثر في «المرآة» وبعدا اكبر عنه وحتى عنها!
يا الهي انهما اذناي وقد التصق اعلاهما بالرأس كما هما دائمًا في المرايا وكل الصور
رأسي «في المرآة» كساه الشيب بينما ظلتْ كل تفاصيله التي احملها الان كما هي، لون شعري الان اسود، و«في المرآة يسوده الشيب» شعري اكرد وقصير «ولكنه اطول في المرآة كما احلم الآن وانا انام في سجن «الكويفيه ببنغازي» ان يكون .
انه انا، هذا الذي معها انا وقد كبرت وشاب رأسي .
لكنه، «لكنني»، ظللت نحيلا وطويلا وباهت السمرة، لاحظت ذلك عندما وقف الذي معها والتفت الى «المرآة» وشرع يحاول عبثًا «كما افعل» دائما ان يصفف شعره العكر باصابعه النحيلة دونما جدوى ,
اقترب «هو» من «المرآة» اكثر دون ان ينتبه لوجودي رغم ان كتفه لامس كتفي . ثمة تجاعيد بوجهه «وجهي» واسنان اصطناعية بفمه «فمي» ولكن انفه «انفي» لازال طويلا ولازال اعوجاجه ظاهرا للعيان .
كانت التي معه تقف منتظرة اياه , شعرها قصير جدا مما يجعل جمال عنقها في متناول كل بصير , امتلاء جسدها ينفلت عبر ردفيها , عيناها العسليتان تشعان نباهة وذكاءا , ذراعاها العاريان يناديان لحضن حنون .
إلتصقت به وتعلق ذراعها بذراعه فأحسست بدفئها يسري عبر ذراعي , غمزت لي من وراء ظهره وارسلت لي قبلة في الهواء فالتفت «الذي معها» لي والصق انفه الطويل الاعوج بانفي الطويل الاعوج وقال لي غاضبا « اليك عني , دعني اعيش ولا تعكر ايامي بمراهقاتك وسجونك وعبثك , اغطس في كتابك ودعني , لقد غادرتك منذ تلاثين عاما , انا نسيت , محوتك ايها «الاخر» و»بورخيس» قاطبة1 , غادرت السجن وتركتك هناك , من اطلقك وارسلك خلفي؟.
الحلم ، قلت له:
تحلم بي في سجنك منذ أربعين سنة ؟.
قالت وهي تداعب شعره العكر الذي يغطيه الشيب .
نعم، تماماً احلم بك الان اي «قبل اربعين سنة من هذا الحلم»، و شعري الاكرد كما ترين لم يشب بعد . قلت لها فضحكت مزهوة وقبلته هو في فمه بعد ان دخلا المصعد وشرع في الهبوط بهما نحو الدور الارضي , حيث بهواستقبال بفندق وغادرا وهما يتساندان خشية السقوط
« النبيذ لعين , انه يفقدني قدراتي « قال لها وهما ينتظران التاكسي امام فندق ال»فور سيزون» في عمان كما تقول لافتة, فضحكت هي , وفتحت انا لها باب التاكسي وصعد هو خلفها والتصق بها فلمته اليها واراحت راسه على كتفها وغرقنا في صمت رتيب , ومن البعيد وكانما من بئر عميق , ظل احد حراس سجن الكويفيه يمط مطلع اغنية «علم» طويل وحزين وسمعت الذي يتكيء الان على كتفها وقبل اربعين عاما من اتكائته هذه , يبكي , واحسست بيدها تربت على ذراعي وتضمني الى كتفها . اتكأ هو عليّ خشية ان يقع وهو ينتظرها لتفتح باب شقتها بحي عبدون الشمالي بعمان ثم مضى مترنحا وارتمى على اريكة ,أما هي فمضت الى غرفة النوم ثم عادت بملابس نومها ورأيت دون ان يرى الذي كان معها تلك المراة التي ما ان انام بزنزانتي بسجن الكويفية حتى اعود اليها بشقتنا ببنغازي واجدها في انتظاري , انها هي بكل تفاصيلها وان اختلف زمن هذه الليلة ومكانها بنغازي وبيتنا ؟ سالتها فقالت : لا , انا لم اتزوج ولم يكن لي بيت في بنغازي
اننا في عام 1978ونحلم بلقائنا بعد اربعين عاما . قلت
ماذا ؟ 78 ! انا الان طفلة , و عمري ثلات سنوات لاغير ! قالت ضاحكة وشدت اذنيه وهزت رأسه وقبلت جبهته ثم اضافت : انت الان في السجن ايها الزنجي الذي يحلم , يامجنون .
لا اعرف , قلت لها , ولكننا الان معا في شقتنا ببنغازي وانا متعب ومصاب بنزلة برد وحمى واهذي , ولكنني كما انا «قبل هذا الحلم « لم يشب رأسي و78 لم تنتصف بعد وانت كما انت الآن ببهائك هذا وبشعرك المقصوص هذا وبأثر الجرح هذا على شفتك العليا وبكتاب «الجريمة والعقاب» ملقى على الطاولة ورقعة الشطرنج يتقدم فيها بيدق ابيض فقط والقطع الاخرى تتسمر منتظرة ان نلعب , وانا احكي لك عن رقعة الشطرنج التي رسمها المساجين بالفحم على ورق مقوى وقطع الشطرنج التي صنعوها من عجين الخبز والتي تنتظر متسمرة على الطاولة امامنا ان نلعب , وعن قصة «لاعب الشطرنج» لتزفايغ واقبل زندك الايسر الذي اعشق والذي تقولين انك تكرهين ارتخاءه كذراع عجوز , واقول لك انه قطوف دانيه واحس به يذوب في فمي اربعون عاما اذن , و لست مهتما بذاك ولا بالزمن , انت كما انت الان , امرأة من نساء المتوسط , بنت «جوتو» التي خرجت من صدف البحر ,هكذا انت الآن , كما انت في لوحة ميلادك2 , وانا الان اتوسد فخذك واتأمل ابتسامتك الساخرة والمتشككة بكل هذياني الذي تحب ان تسمع كل ليلة لتبتسم ساخرة رغم ذلك .
تقفزين بي اربعين سنة هذه الليلة و ثلاتة الأف كيلو متر دفعة واحدة؟ تهربين من هذري للحظات الى تقرير البي بي سي الانجليزية عن حرب اهلية في ليبيا ثم تقولين امرة اياي «غازلني بالليبي , دعك من الانجليزية» , فيهذي الاشيب الراس بك وبجداتك من ربات الجمال ومرتفعاتهن الساحرة بترهونة , واندهش دون ان تفعلي ذلك لتنبؤات البي بي سي «النوسترادومسيه»3 عن حرب اهلية في ليبيا بعد اربعين سنة من هذا الحلم و1978 لم تنتصف بعد وحارس بسجن الكويفية يمط زمن اغنيته الحزينة ورأسي الاشيب ينام على فخدك الريان هناك بعبدون الشمالي بعمان كما تقول اللافتات ويتوسد رأسي الاسود الشعر مخدة مهتريئة بسجن الكويفية واحسك واشم عطرك الليلي ويختلط تقرير البي بي سي بغناء الحرس , واشتهيك , ويغمغم الاشيب الرأس على فخدك «النبيذ لعين , يفقدني قدراتي» وتضحكين من تبريراته شامتة ويطاول فمي زندك فتنتفضين واقفة ويسقط الراس الاشيب على الكنبة وتدفعين فمي بعيدا عنك وتصيحين غاضبة «دع عنك هذا العجوز» !
اغادر مهزوما واجد نفسي في بلكونة شقة بعبدون الشمالي , اشعل سيجارة وانتظرك , تأتين بفنجانين من القهوة وتجلسين قبالتي تشربين قهوتك وارتشف بهاءك , يتعانق الفنجانان على الطاولة ولا نتعانق
أشتهيك ولا أطالك فبيني وبينك اربعون سنة وثلاتة الآف كيلومتر من البحر والصحراء , رغم انني اجلس مقابلا لك وارتشف قهوتك المرة , واظل برأسي الاشيب ملقى هناك على الكنبة كشال بال القيتي به عن عنقك الفاتن بعيدا , يهذي بفتنتك تحت وطأة نبيذ «شيرازي» ويظل البيدق الابيض متقدما على الرقعة دون ان يجد الاشيب القدرة لدفع البيدق الاسود الى الامام .
احلم بك , لاشك , بعد اربعين عاما لاشك , في بلد بعيد ومدينة بعيدة لاشك , ولكنني احسك , كل تفاصيلك اتحسسها الان وانا انام بسجن الكويغية جيث النوم قيامة للسجين وبعث جديد , لأسير اليك , اعود الى بيتي الذي ابتناه لي الحلم واجدك في انتظاري ككل ليلة وحلم , أكل ما اشتهي , اقرأ لك الاشعار التي تحبين , ترقصين على ايقاعات «المرزكاوي» , نجلس قبالة البحر وحيدين عند الفجر منتظرين ميلاد يوم جديد في بنغازي , نشرب قهوتنا المرة واشعل سيجارتي الاولى لليوم الجديد من منتصف العام الثامن والسبعين من القرن العشرين , هكذا ككل ليلة من كل الليالي الماضية ,انني احلم , لاشك , ولكن كيف تخطينا ذلك الحلم الى ما احلمه الان ؟ كيف احلم باني احلم بحلم اخر غير الذي احلم؟