
في الأعوام الأخيرة كنتُ مهتمًا بعض الشيء بالإنتاجات العربية بعد نجاحات بعضها ووصولها إلى مسابقات كبرى وترشيحات ضخمة في «الأوسكار وفينيسيا» وغيرهما، أفلام من )مصر ولبنان والأردن( ودول أخرى..وصار لديّ حينها فضول للتعرف أكثر على المؤسسات والشركات العربية المهتمة بإنتاج هذا النَّوع من الأفلام، وهو نوع يبدو أنه -حتى مع المنح الداعمة- لا يزال محتفظًا بمظهر الأفلام المستقلة، تلك التي يحظى مخرجها بفرصة تحقيق أفكاره كما هي دون قيود.
في 2018م، ظهر على حساب مؤسسة «الدوحة للأفلام» إعلانٌ بالأفلام التي ستُعرض بمهرجان )أجيال)، واختير فيلم ليبي وثائقي بعنوان «حقول الحرية» للمخرجة نزيهة عريبي ليُفتتح به المهرجان.
كان هذا خبرًا يستحق الاهتمام، ليس بسبب الحكاية فحسب، بل لأنه يُشبه حلمًا طالما راودني: أن يصل فيلم ليبي إلى العالم، بشخوص يشبهوننا ومعاناة تشبهنا.
تواصلتْ مع صديقي سفيان عرارة «أحد أفراد طاقم مصوري الفيلم» وأخبرته بسعادتي، وشاركني تحية من المخرجة نزيهة التي راسلتني شاكرة دعمي. ومنذ ذلك الوقت ونحن ننتظر مشاهدة الفيلم بأي وسيلة. فتيات ليبيات يلعبن كرة القدم في ظل المعوقات.
يحكي الفيلم عن فتيات ليبيات يجمعهن حلم تمثيل أول منتخب نسائي ليبي بعد الثورة، لكن هذا الحلم محفوفًا بالعوائق الاجتماعية والأمنية.
القصة مقسمة لثلاثة مسارات تغطي شخصيات: فدوى، وحليمة، ونما، إلى جانب قصة تكوين المنتخب. توثيق القصة يأتي في وقت حساس ومملوء بالتحولات في ليبيا، ويطرق موضوعًا حسّاسًا لا يعترف المجتمع بأهميته أو هدفه. ثلاث حكايات..ثلاث معارك.. كل فتاة تخوض غمار معركتها الخاصة: فدوى تواجه صراعًا مع الحجاب، ومستقبل الزواج، وتقول: «نولد، ونكبر، لكي نتزوج فقط !!». دعم أسرتها يتوقف عند حدود الزواج، الذي تعُدّه أمها مرحلة لا بد أن تمر بها كل فتاة.
حليمة الحارسة والطبيبة، تحب كرة القدم حبًّا صادقًا، متأثرة بأبطال مثل ميسي وتشافي. تحاول التوفيق بين عملها وشغفها، وتُظهر قدرة عالية على التضحية من أجل ما تُحب.
نما القادمة من تاورغاء، تواجه مأساة التهجير وتربي طفلًا صغيرًا، ولا تتخلى عن لعب الكرة. تمثل كرة القدم لها وسيلة للنضال والتعبير، فهي لا تملك الحق في كثير من الأشياء، وأبسطها العودة إلى مدينتها.
هذه الحكايات الثلاث تُظهر بوضوح معاناة الفتاة الليبية حين تُقرَّر أن تختار..عندما يُسرد الوثائقي بطريقة روائية تفرّدت نزيهة عريبي في معالجة القصة، فبدت بعض الحوارات والمشاهد وكأنها مكتوبة مسبقًا، أو هكذا حسب اعتقادي، ما منح الفيلم طابعًا روائيًّا بفضل التصوير السينمائي وأداء الشخصيات، لا سيما مع شخصية فدوى التي أعتقد أن المخرجة اختارتها لتكون صوت الفيلم وصوت رسائله.
الحوارات جاءت صادقة ومؤثرة، ومنها جملة إحدى اللاعبات لحليمة بعد الخسارة:«ما تزعليش، نحنا الليبيين ديما هكي حظنا !».
هذا النوع من السرد يجعل الفيلم محملًا برسائل داخلية تتجاوز زمن إنتاجه، وتظل مرتبطة بواقع ليبيا الحالي مهما تغير الزمان.
توثيق استثنائي… ونجاحات مستحقة
حقق الفيلم جوائز عدة، مثل جائزة أفضل وثائقي بمهرجان جوبرغ 2018م، وجائزة Feather بمهرجان كرامة 2019م، كما عُرض في مهرجانات كبرى مثل تورنتو، وكان ضمن Criterion Collection. واحدة من أبرز المحطات كانت عرضه بدعوة من نادي أتليتيكو بيلباو الإسباني، مع حضور المخرجة للحديث عن الفيلم.
أخيرًا .. فيلم يوثق تجربة ليبية بعمق واحتراف، ويشجع صنّاع الأفلام الليبيين على قول شيء مهم بأعمالهم. ركضٌ في حقول لا تُثمر يبدو على المخرجة نزيهة أنها لم تمتهن صناعة الأفلام بمحض الصدفة أو رغبة في التجربة، بل هي “سينيفيلية” تحب الأفلام. بعض مشاهد ركض اللاعبة نما تعيد إلى الذهن لحظات منFrances HaوForrest Gump. هذه اللمحات السينمائية تُثري الفيلم وتجعله يتجاوز كونه توثيقًا، ليصبح عملًا فنيًّا يحمل روحًا سينمائية حقيقية.
حقول الحريّة، يجسّد الملعب الذي يصعب الحصول على تذاكر دخوله بسهولة، فالحرية في بلادنا ثمنها غالٍ، وتجبر المرء على دفع تضحية قد تسحب منّه أحلامه، أو ما بقي من حياته.
من موقع مؤسسة ليبيا للأفلام