
كانت بنغاري المدينة تُحظى ببساتين غنّاء وُصفتْ في الميثولوجيا بأنها «آخر جنّات الله على الأرض»، وآخر منطقة خضراء قبل الصحراء، كان يشقها نهر شهير مقدس، صُنِّفَ بأنه أحد خمسة أنهار تجري تحت الأرض، وقد ذكر في الأدبيات الأوروبية القديمة، وكتب عنه الشعراء، سُمى بنهر النسيان، ونهر الحياة، ونهر الموت، ونهر الجنون، ونهر العفاريت؛ حيث كان كل مَنْ يشرب مَنِ مياهه العذبة ينسى نفسه، ويغرق في عالم الحوريات، والموسيقى، وسحر المكان، زاره هرقل للاستحمام، وبحثاً عن التفاح الذهبي، وتضيف الأساطير القديمة بأن هرقل قد صارع الشيطان في هذا النهر الذي أرْتبط بحدائق شجرة التفاح الذهبي المقدسة؛ حيث اشتهرتْ هذه الحدائق بأنها كانت مقرًا لشجرة التفاح الذهبي المقدسة التي أهدتها المؤلهة «جى» إلى المؤلهة «هيرا» بمناسبة زواجها من «زيوس» كبير المؤلهين.
وتقوم الحوريات الحسناوات الثلاث والتنين الضخم اللآدوت بحراسة البستان والتفاح الذهبي، وقد نسجتْ حوله الكثير من الأساطير المليئة بالأحداث المشوقة.
في منطقة بوعطني بمدينة بنغازي، يوجد كهف ضخم مندس بين أشجار متشابكة، وكأنها تخفيه عن الأنظار، يعود تاريخه إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح، وربما في بداية تكوين الخليقة، يمتد هذا الكهف في أعماق الأرض لخمسين مترًا، تتموقع في قاعه بحيرة جوفية ساكنة يمتد منها نهر لا نهاية له هو نهر «الليثون»، أو «الجُخّ الكبير» كما يسميه أهل بنغازي، وأسطوريًا يسمى نهر «النسيان»، والنزول إلى الكهف المؤدي إلى هذا النهر يتم عبر سلم حجري تحيط به البساتين، ويرجح البعض أنَّ البساتين التي تحيط به هي بقايا حدائق هيوسبريدس الأسطورية، ويغذي هذا النهر البحيرات السبع في بنغازي، وهو أحد الأنهار الخمسة السفلية المعروفة بأنهار «هاديس» وهي: أنهار «أكيرون، وكوكتيوس، وفليجيثون، وليثون، وستيكس»، وهاديس هو أحد الإلهة الإغريقية، وتناولتْ الميثولوجيا في أساطيرها وخرافاتها أن الأموات في رحلة مغادرتهم الحياة نحو العالم الآخر يمرون بعدد من الأنهار، ونهر الليثون الذي عرف سابقًا نهر النسيان، يمرّ عبره الموتى ليمحوا من ذاكراتهم ما عانوه من آلام في حياتهم الدنيا.
لقد تمتع هذا النهرُ بقدسية خاصة، إذ اعتبرته الأساطير أحد أنهار العالم السفلي الخمسة، التي يجب أن تمر به الأرواح بعد الموت لتتطهر وتنسى آلامها وآثامها، فمن شَرِبَ منه ينسى كل شيء مؤلم مر به في حياته، فهو نهر النسيان عندهم، وهو وجهة أرواح موتاهم، تقصد هذا النهر لتتطهر من ذنوب صاحبها، بنسيان آلامهم في الحياة.
تُقول الأساطير القديمة بأنَّ الشابَ الرقيق العطوف «إله النَّوم هيبنوس» ابن نيكس آلهة الليل يعيش في هذا الكهف وينام على فراش ناعم داكن اللون بجانب النهر الذي يجري داخل هذا الكهف، فيجعل كل ما في الكهف باعثاً للنَّوم، وتزعم الأساطير، أنه كان يهدهد أعتى الآلهة حتى يناموا.
كان الإغريقُ يؤمنون بأن الأرواح إذا ما فارقتْ الأجساد، فإنها تنزل في باطن الأرض بدلاً من الصعود إلى السماء وعليها أنَّ تتطهر وتنسى الهموم والأحزان وتتخلص من الشوائب والذنوب، وهذا لا يتم إلا بالمرور بــ «نهر النسيان المقدس» والاغتسال في مياهه والشرب منه لما له من قوة خفية تساعد على النسيان، وقد سجل ملك مصر «بطليموس» السابع عندما غزا المنطقة أنَّ جنوده وجدوا نبات الخرشوف في ضواحي مدينة بنغازي واصطادوا الأسماك من نهر النسيان.
سبب تسمية النهر باسم «الليثون» جاء نسبة للأميرة «ليثون» ابنة الحاكم الروماني؛ حيث تقول الرواية الرومانية بأنها دخلتْ لهذا «الجُخّ» مجرى النهر بقارب ومعها كلبها الصغير، لكنها منذ ذلك اليوم اختفتْ ولم تعد، ولم تعد تُعرف قصتها هل غرقتْ، أم اختفتْ في ظروف غامضة، بعدها أطلق اسمها على هذا النهر.
ذكر الباحث بقسم الآثار بجامعة بنغازي أ. خالد الهدار في كتاب غير منشور عن بنغازي في عصورها القديمة جزءًا عن «نهر الليثون»، وصف فيه الموقع بأنه من المعالم الطبيعية اللافتة للانتباه، والذي يعرف محلياً باسم «الجُخّْ» التجويف الكبير، ويقع بمنطقة بوعطني في أحد الكهوف الكارستية المليئة بالمياه المتجددة، كما ورد في الكتاب بأنَّ كثيراً من الباحثين اتفقوا أنه هو ذاته «نهر الليثون» المرتبط بعالم الأموات في الأساطير الإغريقية،
وذُكر بأنَّ المستكشفين البريطانيين John Smith Murdoch و Edwin Burtscher عند زيارتهما لـ«لجُخّ» عام 1860م، لم يُدركا أنه يتكون من ثلاث مغارات، لكنهما قدّما معلومات جيدة عنه آنذاك، ونشرا أول صورة لمدخله، وقد حاول أحد الليبيين المرافقين لهما التوغل لداخل مجرى النهر، ولكنه عاد بسبب عمق المياه، وتوقف الاستكشاف لعدم توفر قارب حينها، كما أن العائق نفسه واجه الإخوان Beechey في وقت سابق عندما حاولا استكشاف «الجُخّ» خلال عامي 1821م–
1822م.
حاكم بنغازي «خليل بي» في العهد العثماني الثاني الذي أمتد في الفترة 1835م – 1911م استكشف الكهف بقارب؛ حيث ركب قارباً وتوغل به في الكهف لمدة ثماني ساعات، وعاد من دون أن يصل إلى نهايته، وأكدّ أن عمق المياه لا يقلُّ عن 30 قدماً، لكنه لم يستطع التقدم كثيراً خوفاً من الضياع.
ويبدو أن مياه «نهر الليثون» كانت تسير تحت الأرض لتصل إلى منطقتي بودزيرة، وعين زيانة. ويقال إنه قد أجريتْ تجربة أثناء الاحتلال الإيطالي بوضع حبر، أو مادة صبغية في مياه «الجُخّ» ظهرتْ بعد فترة في عين زيانة مما يؤكد سريان المياه أسفل سطح الأرض بين المنطقتين.
كما أشار إلى أن الايطاليين في نهاية عشرينيات، وثلاثينيات القرن الماضي اهتموا بـ«الجُخّ الكبير» من الناحية السياحية وأطلقوا عليه الاسم الأسطوري «الليثون»؛ حيث قاموا بإضافة درج للنزول لتجويفات النهر ولدخول الزوار، لا يزال موجودًا حتى وقتنا الحاضر وبحالة جيدة، وتمت إضاءة المغارات من الداخل، وأضيفتْ بعض المرافق خارجه لاستراحة السياح وتزويدهم بما يحتاجون، ويجد الزائر في نهاية السلم كهفا بسقف مرتفع، والمرور عبر ذلك الكهف يؤدي إلى تجويفات أخرى، والتي ينخفض مدخلها لدرجة الزحف في وضعية الركوع. وتتميز هذه المسافة للداخل بظلمة تثير الرهبة لامتداد التجويف نحو المجهول، أما التجويف الثاني فهو أكثر اتساعًا بسقف مرتفع مثل القبة، يصل اتساعه في بعض الأماكن لعشرات الأمتار.
وقد تم تزويد هذه التجويفات في العهد الإيطالي بإضاءة مازالتْ بقاياها موجودة حتى الآن، لكن الكهوف عادتْ لظلمتها بعد تعطل هذه الإضاءة، يبدأ السقف الصخري للتجويف الثالث بالانخفاض مجددًا كلما زاد العمق نحو الداخل، حتى يكاد يلامس سقفها أخيرًا سطح المياه التي تنساب من باطن الأرض، ولا نعرف حتى الآن عما إذا كانت هذه المياه نهرًا جوفيًا أم بحيرة. وتتجه مياه «الجُخّ» من الشرق إلى الغرب، وهي ذات معدل ملوحة منخفض، تتفاوت من وقت لآخر، كما تبدو البحيرة قليلة العمق في البداية، لكنها شديدة العمق في الداخل.
وقد بُني قصر الغدير الموجود حتى وقتنا الحالي، بجانب «الجُخّ الكبير» لاستراحة «Italo Balbo» حاكم ليبيا فترة الاحتلال الإيطالي، الذي كان يرتاد النهر ويجدف بأحد القوارب الصغيرة داخل مياهه، كما زاره وزير خارجية إيطاليا آنذاك الماركيز Marchese di San Giovanni قبل الاحتلال الإيطالي، وقبل أن تجرى على «الجُخّ» بعض الإصلاحات، زاره الملك Victor Emmanuel III آخر ملوك مملكة إيطاليا عام 1938م.
لم تتوقف محاولات استكشاف «الجُخّ» لتتبع مياهه ومجراه، ومن الرحالة الذين وصلوا إلى هناك من كتب اسمه على الجدران الداخلية للكهوف، كما أن بعض المصادر ذكرتْ أن اثنين من الجنود الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية استقلوا زورقًا وتوغلوا به في الكهف لكنهما تاها داخله، ولم يتمكنا من العودة، وقد قام في عام 2013م فريق غوص من مراقبة آثار بنغازي، بتتبع مياه «الجُخّ» لكنه لم يصل إلى أي نتيجة محدَّدة.
في خلاصة دراسته كتب الباحث خالد الهدار يمكن أن نربط بين أسطورة هذا النهر أي «الليثون»، وحي الليثي أحد أحياء بنغازي السكنية، نسبة إلى منطقة «الجُخّ»، وقد عرفتْ المنطقة باسم الليثي منذ القرن التاسع عشر وما بعده، نسبة إلى أسطورة «نهر الليثون».
«نهر الليثون»، أو «نهر النسيان» محاط بهالة كبيرة من الأساطير زادته غموضًا، وأهمية وهو يجري تحت أرض مدينة بنغازي منذ آلاف السنين تحت ظلال الأشجار المتشابكة وبين الأعشاب الخضراء والزهور ويعد من مواقع الجذب السياحي الممتازة التي لم تستثمر بشكل يناسب أهميته الجمالية والتاريخية، وهو من المعالم الطبيعية المهملة سياحيًا وعلميًا في مجالات الدراسات الأثرية، بالرغم من أن أ. باسيلي شفيق خزام قد قام بإعداد رسالة الماجستير عن «الجُخّ الكبير»، وبالرجوع إلى الواقع فإن «نهر الليثون» حقيقة موجودة وليس خيالاً، والكثير من سكان مدينة بنغازي لا يعلمون عنه شيئًا لأنه مخفي عن الأنظار، وربما تم إخفاؤه.