رتوش

نهر النسيان .. حينما أختفت الأميرة ليثون

زكريا محمد

كانت‭ ‬بنغاري‭ ‬المدينة‭ ‬تُحظى‭ ‬ببساتين‭ ‬غنّاء‭ ‬وُصفتْ‭ ‬في‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬آخر‭ ‬جنّات‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الأرض‮»‬،‭ ‬وآخر‭ ‬منطقة‭ ‬خضراء‭ ‬قبل‭ ‬الصحراء،‭ ‬كان‭ ‬يشقها‭ ‬نهر‭ ‬شهير‭ ‬مقدس،‭ ‬صُنِّفَ‭ ‬بأنه‭ ‬أحد‭ ‬خمسة‭ ‬أنهار‭ ‬تجري‭ ‬تحت‭ ‬الأرض،‭ ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الأوروبية‭ ‬القديمة،‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬الشعراء،‭ ‬سُمى‭ ‬بنهر‭ ‬النسيان،‭ ‬ونهر‭ ‬الحياة،‭ ‬ونهر‭ ‬الموت،‭ ‬ونهر‭ ‬الجنون،‭ ‬ونهر‭ ‬العفاريت؛‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬مَنْ‭ ‬يشرب‭ ‬مَنِ‭ ‬مياهه‭ ‬العذبة‭ ‬ينسى‭ ‬نفسه،‭ ‬ويغرق‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحوريات،‭ ‬والموسيقى،‭ ‬وسحر‭ ‬المكان،‭ ‬زاره‭ ‬هرقل‭ ‬للاستحمام،‭ ‬وبحثاً‭ ‬عن‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي،‭ ‬وتضيف‭ ‬الأساطير‭ ‬القديمة‭ ‬بأن‭ ‬هرقل‭ ‬قد‭ ‬صارع‭ ‬الشيطان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬أرْتبط‭ ‬بحدائق‭ ‬شجرة‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي‭ ‬المقدسة؛‭ ‬حيث‭ ‬اشتهرتْ‭ ‬هذه‭ ‬الحدائق‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬مقرًا‭ ‬لشجرة‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي‭ ‬المقدسة‭ ‬التي‭ ‬أهدتها‭ ‬المؤلهة‭ ‬‮«‬جى‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬المؤلهة‭ ‬‮«‬هيرا‮»‬‭ ‬بمناسبة‭ ‬زواجها‭ ‬من‭ ‬‮«‬زيوس‮»‬‭ ‬كبير‭ ‬المؤلهين‭.‬

وتقوم‭ ‬الحوريات‭ ‬الحسناوات‭ ‬الثلاث‭ ‬والتنين‭ ‬الضخم‭ ‬اللآدوت‭ ‬بحراسة‭ ‬البستان‭ ‬والتفاح‭ ‬الذهبي،‭ ‬وقد‭ ‬نسجتْ‭ ‬حوله‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬المليئة‭ ‬بالأحداث‭ ‬المشوقة‭.‬

في‭ ‬منطقة‭ ‬بوعطني‭ ‬بمدينة‭ ‬بنغازي،‭ ‬يوجد‭ ‬كهف‭ ‬ضخم‭ ‬مندس‭ ‬بين‭ ‬أشجار‭ ‬متشابكة،‭ ‬وكأنها‭ ‬تخفيه‭ ‬عن‭ ‬الأنظار،‭ ‬يعود‭ ‬تاريخه‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬ميلاد‭ ‬السيد‭ ‬المسيح،‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬تكوين‭ ‬الخليقة،‭ ‬يمتد‭ ‬هذا‭ ‬الكهف‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الأرض‭ ‬لخمسين‭ ‬مترًا،‭ ‬تتموقع‭ ‬في‭ ‬قاعه‭ ‬بحيرة‭ ‬جوفية‭ ‬ساكنة‭ ‬يمتد‭ ‬منها‭ ‬نهر‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له‭ ‬هو‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬الليثون‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الجُخّ‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭ ‬أهل‭ ‬بنغازي،‭ ‬وأسطوريًا‭ ‬يسمى‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬النسيان‮»‬،‭ ‬والنزول‭ ‬إلى‭ ‬الكهف‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬يتم‭ ‬عبر‭ ‬سلم‭ ‬حجري‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬البساتين،‭ ‬ويرجح‭ ‬البعض‭ ‬أنَّ‭ ‬البساتين‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬هي‭ ‬بقايا‭ ‬حدائق‭ ‬هيوسبريدس‭ ‬الأسطورية،‭ ‬ويغذي‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬البحيرات‭ ‬السبع‭ ‬في‭ ‬بنغازي،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬الأنهار‭ ‬الخمسة‭ ‬السفلية‭ ‬المعروفة‭ ‬بأنهار‭ ‬‮«‬هاديس‮»‬‭ ‬وهي‭: ‬أنهار‭ ‬‮«‬أكيرون،‭ ‬وكوكتيوس،‭ ‬وفليجيثون،‭ ‬وليثون،‭ ‬وستيكس‮»‬،‭ ‬وهاديس‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬الإلهة‭ ‬الإغريقية،‭ ‬وتناولتْ‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬في‭ ‬أساطيرها‭ ‬وخرافاتها‭ ‬أن‭ ‬الأموات‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬مغادرتهم‭ ‬الحياة‭ ‬نحو‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬يمرون‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الأنهار،‭ ‬ونهر‭ ‬الليثون‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬سابقًا‭ ‬نهر‭ ‬النسيان،‭ ‬يمرّ‭ ‬عبره‭ ‬الموتى‭ ‬ليمحوا‭ ‬من‭ ‬ذاكراتهم‭ ‬ما‭ ‬عانوه‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬الدنيا‭.‬

لقد‭ ‬تمتع‭ ‬هذا‭ ‬النهرُ‭ ‬بقدسية‭ ‬خاصة،‭ ‬إذ‭ ‬اعتبرته‭ ‬الأساطير‭ ‬أحد‭ ‬أنهار‭ ‬العالم‭ ‬السفلي‭ ‬الخمسة،‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬به‭ ‬الأرواح‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭ ‬لتتطهر‭ ‬وتنسى‭ ‬آلامها‭ ‬وآثامها،‭ ‬فمن‭ ‬شَرِبَ‭ ‬منه‭ ‬ينسى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مؤلم‭ ‬مر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬فهو‭ ‬نهر‭ ‬النسيان‭ ‬عندهم،‭ ‬وهو‭ ‬وجهة‭ ‬أرواح‭ ‬موتاهم،‭ ‬تقصد‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬لتتطهر‭ ‬من‭ ‬ذنوب‭ ‬صاحبها،‭ ‬بنسيان‭ ‬آلامهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

تُقول‭ ‬الأساطير‭ ‬القديمة‭ ‬بأنَّ‭ ‬الشابَ‭ ‬الرقيق‭ ‬العطوف‭ ‬‮«‬إله‭ ‬النَّوم‭ ‬هيبنوس‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬نيكس‭ ‬آلهة‭ ‬الليل‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكهف‭ ‬وينام‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬ناعم‭ ‬داكن‭ ‬اللون‭ ‬بجانب‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬الكهف،‭ ‬فيجعل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكهف‭ ‬باعثاً‭ ‬للنَّوم،‭ ‬وتزعم‭ ‬الأساطير،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يهدهد‭ ‬أعتى‭ ‬الآلهة‭ ‬حتى‭ ‬يناموا‭.‬

كان‭ ‬الإغريقُ‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬الأرواح‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬فارقتْ‭ ‬الأجساد،‭ ‬فإنها‭ ‬تنزل‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬الأرض‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬وعليها‭ ‬أنَّ‭ ‬تتطهر‭ ‬وتنسى‭ ‬الهموم‭ ‬والأحزان‭ ‬وتتخلص‭ ‬من‭ ‬الشوائب‭ ‬والذنوب،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬بالمرور‭ ‬بــ‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬النسيان‭ ‬المقدس‮»‬‭ ‬والاغتسال‭ ‬في‭ ‬مياهه‭ ‬والشرب‭ ‬منه‭ ‬لما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬خفية‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬النسيان،‭ ‬وقد‭ ‬سجل‭ ‬ملك‭ ‬مصر‭ ‬‮«‬بطليموس‮»‬‭ ‬السابع‭ ‬عندما‭ ‬غزا‭ ‬المنطقة‭ ‬أنَّ‭ ‬جنوده‭ ‬وجدوا‭ ‬نبات‭ ‬الخرشوف‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬واصطادوا‭ ‬الأسماك‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬النسيان‭.‬

سبب‭ ‬تسمية‭ ‬النهر‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الليثون‮»‬‭ ‬جاء‭ ‬نسبة‭ ‬للأميرة‭ ‬‮«‬ليثون‮»‬‭ ‬ابنة‭ ‬الحاكم‭ ‬الروماني؛‭ ‬حيث‭ ‬تقول‭ ‬الرواية‭ ‬الرومانية‭ ‬بأنها‭ ‬دخلتْ‭ ‬لهذا‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬مجرى‭ ‬النهر‭ ‬بقارب‭ ‬ومعها‭ ‬كلبها‭ ‬الصغير،‭ ‬لكنها‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬اختفتْ‭ ‬ولم‭ ‬تعد،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تُعرف‭ ‬قصتها‭ ‬هل‭ ‬غرقتْ،‭ ‬أم‭ ‬اختفتْ‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬غامضة،‭ ‬بعدها‭ ‬أطلق‭ ‬اسمها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭.‬

ذكر‭ ‬الباحث‭ ‬بقسم‭ ‬الآثار‭ ‬بجامعة‭ ‬بنغازي‭ ‬أ‭. ‬خالد‭ ‬الهدار‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬غير‭ ‬منشور‭ ‬عن‭ ‬بنغازي‭ ‬في‭ ‬عصورها‭ ‬القديمة‭ ‬جزءًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬الليثون‮»‬،‭ ‬وصف‭ ‬فيه‭ ‬الموقع‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬المعالم‭ ‬الطبيعية‭ ‬اللافتة‭ ‬للانتباه،‭ ‬والذي‭ ‬يعرف‭ ‬محلياً‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الجُخّْ‮»‬‭ ‬التجويف‭ ‬الكبير،‭ ‬ويقع‭ ‬بمنطقة‭ ‬بوعطني‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الكهوف‭ ‬الكارستية‭ ‬المليئة‭ ‬بالمياه‭ ‬المتجددة،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬بأنَّ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬اتفقوا‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬الليثون‮»‬‭ ‬المرتبط‭ ‬بعالم‭ ‬الأموات‭ ‬في‭ ‬الأساطير‭ ‬الإغريقية،

وذُكر‭ ‬بأنَّ‭ ‬المستكشفين‭ ‬البريطانيين‭ ‬John Smith Murdoch‭ ‬و‭ ‬Edwin Burtscher‭ ‬عند‭ ‬زيارتهما‭ ‬لـ«لجُخّ‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1860م،‭ ‬لم‭ ‬يُدركا‭ ‬أنه‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬مغارات،‭ ‬لكنهما‭ ‬قدّما‭ ‬معلومات‭ ‬جيدة‭ ‬عنه‭ ‬آنذاك،‭ ‬ونشرا‭ ‬أول‭ ‬صورة‭ ‬لمدخله،‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬أحد‭ ‬الليبيين‭ ‬المرافقين‭ ‬لهما‭ ‬التوغل‭ ‬لداخل‭ ‬مجرى‭ ‬النهر،‭ ‬ولكنه‭ ‬عاد‭ ‬بسبب‭ ‬عمق‭ ‬المياه،‭ ‬وتوقف‭ ‬الاستكشاف‭ ‬لعدم‭ ‬توفر‭ ‬قارب‭ ‬حينها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬العائق‭ ‬نفسه‭ ‬واجه‭ ‬الإخوان‭ ‬Beechey‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬سابق‭ ‬عندما‭ ‬حاولا‭ ‬استكشاف‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬عامي‭ ‬1821م
1822م‭.‬

حاكم‭ ‬بنغازي‭ ‬‮«‬خليل‭ ‬بي‮»‬‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬العثماني‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬أمتد‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬1835م‭ ‬‭ ‬1911م‭ ‬استكشف‭ ‬الكهف‭ ‬بقارب؛‭ ‬حيث‭ ‬ركب‭ ‬قارباً‭ ‬وتوغل‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الكهف‭ ‬لمدة‭ ‬ثماني‭ ‬ساعات،‭ ‬وعاد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬نهايته،‭ ‬وأكدّ‭ ‬أن‭ ‬عمق‭ ‬المياه‭ ‬لا‭ ‬يقلُّ‭ ‬عن‭ ‬30‭ ‬قدماً،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬التقدم‭ ‬كثيراً‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬الضياع‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬مياه‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬الليثون‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬تسير‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬منطقتي‭ ‬بودزيرة،‭ ‬وعين‭ ‬زيانة‭. ‬ويقال‭ ‬إنه‭ ‬قد‭ ‬أجريتْ‭ ‬تجربة‭ ‬أثناء‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإيطالي‭ ‬بوضع‭ ‬حبر،‭ ‬أو‭ ‬مادة‭ ‬صبغية‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬ظهرتْ‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬زيانة‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬سريان‭ ‬المياه‭ ‬أسفل‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭ ‬بين‭ ‬المنطقتين‭.‬

كما‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الايطاليين‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عشرينيات،‭ ‬وثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬اهتموا‭ ‬بـ«الجُخّ‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬السياحية‭ ‬وأطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬الاسم‭ ‬الأسطوري‭ ‬‮«‬الليثون»؛‭ ‬حيث‭ ‬قاموا‭ ‬بإضافة‭ ‬درج‭ ‬للنزول‭ ‬لتجويفات‭ ‬النهر‭ ‬ولدخول‭ ‬الزوار،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬موجودًا‭ ‬حتى‭ ‬وقتنا‭ ‬الحاضر‭ ‬وبحالة‭ ‬جيدة،‭ ‬وتمت‭ ‬إضاءة‭ ‬المغارات‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬وأضيفتْ‭ ‬بعض‭ ‬المرافق‭ ‬خارجه‭ ‬لاستراحة‭ ‬السياح‭ ‬وتزويدهم‭ ‬بما‭ ‬يحتاجون،‭ ‬ويجد‭ ‬الزائر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬السلم‭ ‬كهفا‭ ‬بسقف‭ ‬مرتفع،‭ ‬والمرور‭ ‬عبر‭ ‬ذلك‭ ‬الكهف‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تجويفات‭ ‬أخرى،‭ ‬والتي‭ ‬ينخفض‭ ‬مدخلها‭ ‬لدرجة‭ ‬الزحف‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬الركوع‭. ‬وتتميز‭ ‬هذه‭ ‬المسافة‭ ‬للداخل‭ ‬بظلمة‭ ‬تثير‭ ‬الرهبة‭ ‬لامتداد‭ ‬التجويف‭ ‬نحو‭ ‬المجهول،‭ ‬أما‭ ‬التجويف‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعًا‭ ‬بسقف‭ ‬مرتفع‭ ‬مثل‭ ‬القبة،‭ ‬يصل‭ ‬اتساعه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأماكن‭ ‬لعشرات‭ ‬الأمتار‭.‬

وقد‭ ‬تم‭ ‬تزويد‭ ‬هذه‭ ‬التجويفات‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الإيطالي‭ ‬بإضاءة‭ ‬مازالتْ‭ ‬بقاياها‭ ‬موجودة‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬لكن‭ ‬الكهوف‭ ‬عادتْ‭ ‬لظلمتها‭ ‬بعد‭ ‬تعطل‭ ‬هذه‭ ‬الإضاءة،‭ ‬يبدأ‭ ‬السقف‭ ‬الصخري‭ ‬للتجويف‭ ‬الثالث‭ ‬بالانخفاض‭ ‬مجددًا‭ ‬كلما‭ ‬زاد‭ ‬العمق‭ ‬نحو‭ ‬الداخل،‭ ‬حتى‭ ‬يكاد‭ ‬يلامس‭ ‬سقفها‭ ‬أخيرًا‭ ‬سطح‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬تنساب‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض،‭ ‬ولا‭ ‬نعرف‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المياه‭ ‬نهرًا‭ ‬جوفيًا‭ ‬أم‭ ‬بحيرة‭. ‬وتتجه‭ ‬مياه‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬معدل‭ ‬ملوحة‭ ‬منخفض،‭ ‬تتفاوت‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬لآخر،‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬البحيرة‭ ‬قليلة‭ ‬العمق‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لكنها‭ ‬شديدة‭ ‬العمق‭ ‬في‭ ‬الداخل‭.‬

وقد‭ ‬بُني‭ ‬قصر‭ ‬الغدير‭ ‬الموجود‭ ‬حتى‭ ‬وقتنا‭ ‬الحالي،‭ ‬بجانب‭ ‬‮«‬الجُخّ‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬لاستراحة‭ ‬‮«‬Italo Balbo‮»‬‭ ‬حاكم‭ ‬ليبيا‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإيطالي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرتاد‭ ‬النهر‭ ‬ويجدف‭ ‬بأحد‭ ‬القوارب‭ ‬الصغيرة‭ ‬داخل‭ ‬مياهه،‭ ‬كما‭ ‬زاره‭ ‬وزير‭ ‬خارجية‭ ‬إيطاليا‭ ‬آنذاك‭ ‬الماركيز‭ ‬Marchese di San Giovanni‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تجرى‭ ‬على‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬بعض‭ ‬الإصلاحات،‭ ‬زاره‭ ‬الملك‭ ‬Victor Emmanuel III‭ ‬آخر‭ ‬ملوك‭ ‬مملكة‭ ‬إيطاليا‭ ‬عام‭ ‬1938م‭.‬

لم‭ ‬تتوقف‭ ‬محاولات‭ ‬استكشاف‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬لتتبع‭ ‬مياهه‭ ‬ومجراه،‭ ‬ومن‭ ‬الرحالة‭ ‬الذين‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬الداخلية‭ ‬للكهوف،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬ذكرتْ‭ ‬أن‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬الإنجليز‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬استقلوا‭ ‬زورقًا‭ ‬وتوغلوا‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الكهف‭ ‬لكنهما‭ ‬تاها‭ ‬داخله،‭ ‬ولم‭ ‬يتمكنا‭ ‬من‭ ‬العودة،‭ ‬وقد‭ ‬قام‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2013م‭ ‬فريق‭ ‬غوص‭ ‬من‭ ‬مراقبة‭ ‬آثار‭ ‬بنغازي،‭ ‬بتتبع‭ ‬مياه‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬نتيجة‭ ‬محدَّدة‭.‬

في‭ ‬خلاصة‭ ‬دراسته‭ ‬كتب‭ ‬الباحث‭ ‬خالد‭ ‬الهدار‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نربط‭ ‬بين‭ ‬أسطورة‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬أي‭ ‬‮«‬الليثون‮»‬،‭ ‬وحي‭ ‬الليثي‭ ‬أحد‭ ‬أحياء‭ ‬بنغازي‭ ‬السكنية،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬‮«‬الجُخّ‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬عرفتْ‭ ‬المنطقة‭ ‬باسم‭ ‬الليثي‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وما‭ ‬بعده،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬أسطورة‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬الليثون‮»‬‭.‬

‮«‬نهر‭ ‬الليثون‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬النسيان‮»‬‭ ‬محاط‭ ‬بهالة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬زادته‭ ‬غموضًا،‭ ‬وأهمية‭ ‬وهو‭ ‬يجري‭ ‬تحت‭ ‬أرض‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬تحت‭ ‬ظلال‭ ‬الأشجار‭ ‬المتشابكة‭ ‬وبين‭ ‬الأعشاب‭ ‬الخضراء‭ ‬والزهور‭ ‬ويعد‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬الجذب‭ ‬السياحي‭ ‬الممتازة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستثمر‭ ‬بشكل‭ ‬يناسب‭ ‬أهميته‭ ‬الجمالية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬المعالم‭ ‬الطبيعية‭ ‬المهملة‭ ‬سياحيًا‭ ‬وعلميًا‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الدراسات‭ ‬الأثرية،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أ‭. ‬باسيلي‭ ‬شفيق‭ ‬خزام‭ ‬قد‭ ‬قام‭ ‬بإعداد‭ ‬رسالة‭ ‬الماجستير‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الجُخّ‭ ‬الكبير‮»‬،‭ ‬وبالرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬الليثون‮»‬‭ ‬حقيقة‭ ‬موجودة‭ ‬وليس‭ ‬خيالاً،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬لا‭ ‬يعلمون‭ ‬عنه‭ ‬شيئًا‭ ‬لأنه‭ ‬مخفي‭ ‬عن‭ ‬الأنظار،‭ ‬وربما‭ ‬تم‭ ‬إخفاؤه‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى