اجتماعي

بين التماسك والتفكك الأسرة في زمن التحولات ..؟

شهد عبد الحفيظ

في‭ ‬عالمٍ‭ ‬يتغيّر‭ ‬بسرعة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬هي‭ ‬سيد‭ ‬الموقف،‭ ‬والعمل‭ ‬يأخذ‭ ‬جلّ‭ ‬الوقت،‭ ‬والضغوط‭ ‬النفسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬تُطارد‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬يقف‭ ‬سؤال‭ ‬كبير‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه‭:‬

أين‭ ‬موقع‭ ‬الأسرة‭ ‬اليوم؟

هل‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تقوم‭ ‬بدورها‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الحضن‭ ‬الدافئ‭ ‬والمدرسة‭ ‬الأولى‭ ‬والقلب‭ ‬الذي‭ ‬يحتضن‭ ‬الجميع؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الأسرة‭ ‬فقدت‭ ‬بريقها‭ ‬وسط‭ ‬دوامة‭ ‬الحياة‭ ‬الحديثة؟

لم‭ ‬تعد‭ ‬الأسرة‭ ‬كما‭ ‬كانت؛‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الأسرة‭ ‬الممتدة‮»‬‭ ‬تضم‭ ‬الجد‭ ‬والجدة‭ ‬والأبناء‭ ‬والأحفاد،‭ ‬وكان‭ ‬البيت‭ ‬يعجّ‭ ‬بالضحكات‭ ‬والحكايات‭ ‬والنصائح،‭ ‬وكان‭ ‬الكل‭ ‬يشعر‭ ‬بالانتماء‭ ‬والدفء‭. ‬أما‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬‮«‬الأسرة‭ ‬النووية‮»‬،‭ ‬أصبح‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الخاص‭: ‬هواتف‭ ‬ذكية،‭ ‬شاشات‭ ‬مضيئة،‭ ‬تواصل‭ ‬افتراضي،‭ ‬وغياب‭ ‬شبه‭ ‬تام‭ ‬للحوار‭ ‬الحقيقي‭.‬

ومع‭ ‬هذا‭ ‬التحوَّل،‭ ‬برزت‭ ‬تساؤلات‭ ‬جديدة‭:‬

هل‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬الأبوان‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬غرس‭ ‬القيم‭ ‬في‭ ‬أبنائهم؟

هل‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬الروابط‭ ‬الأسرية‭ ‬متينة‭ ‬كما‭ ‬كانت؟

وهل‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬الأسرة‭ ‬جعل‭ ‬المجتمع‭ ‬أقوى‭… ‬أم‭ ‬أضعف؟

في‭ ‬هذا‭ ‬الاستطلاع،‭ ‬نسلّط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الأسرة‭ ‬وتأثيرها‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬ونسعى‭ ‬لاكتشاف‭ ‬كيف‭ ‬ينعكس‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭  ‬سلبًا‭ ‬أو‭ ‬إيجابًا‭  ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد،‭ ‬وتماسك‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ومستقبل‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭.‬

انطلقنا‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬واستمعنا‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬مختصين،‭ ‬وأولياء‭ ‬أمور،‭ ‬وشباب،‭ ‬وباحثين‭ ‬اجتماعيين،‭ ‬لنرسم‭ ‬معًا‭ ‬صورة‭ ‬واقعية‭ ‬للأسرة‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬ونحاول‭ ‬استشراف‭ ‬مستقبلها‭.‬

الخبيرة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬د‭. ‬هنادي‭ ‬التاجوري‭ :‬

الأسرة‭ ‬هي‭ ‬المصنع‭ ‬الحقيقي‭ ‬للإنسان،‭ ‬منها‭ ‬يخرج‭ ‬الفرد‭ ‬إمّا‭ ‬صالحًا‭ ‬يبني‭ ‬مجتمعه،‭ ‬أو‭ ‬مضطربًا‭ ‬يهدمه‭ ‬دون‭ ‬وعي‭.‬

للأسف،‭ ‬ضعف‭ ‬الترابط‭ ‬الأسري‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬بسبب‭ ‬انشغال‭ ‬الأهل‭ ‬وغياب‭ ‬الحوار‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تزايد‭ ‬حالات‭ ‬القلق‭ ‬والاكتئاب‭ ‬بين‭ ‬الشباب،‭ ‬وفقدان‭ ‬الهوية‭ ‬والانتماء‭.‬

التغيير‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬انعكس‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬فالتربية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كافية،‭ ‬والمسؤوليات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مشتركة‭ ‬كما‭ ‬كانت‭.”‬

رأي‭ ‬المربية‭  ‬الأستاذة‭ ‬سميرة‮ ‬‭ ‬المجدوب‭:‬

زمان‭ ‬كانت‭ ‬الأسرة‭ ‬تربي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تعلّم،‭ ‬وكان‭ ‬الأب‭ ‬والأم‭ ‬قدوة‭ ‬لأبنائهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

اليوم‭ ‬نرى‭ ‬أولياء‭ ‬أمور‭ ‬يسلمون‭ ‬أبناءهم‭ ‬للتكنولوجيا،‭ ‬ويغيب‭ ‬دورهم‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬المراقبة‭ ‬والتوجيه‭.‬

التربية‭ ‬القديمة‭ ‬رغم‭ ‬بساطتها‭ ‬كانت‭ ‬أقوى‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬والحزم‭ ‬والقدوة‭ ‬الحسنة‭. ‬

الأب‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬الغرياني‭ ‬45‭ ‬عامًا‭:‬

أعترف‭ ‬أنني‭ ‬أقضي‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أعود‭ ‬منهكًا‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬طاقة‭ ‬للجلوس‭ ‬مع‭ ‬أبنائي‭.‬

لكنّي‭ ‬بدأتُ‭ ‬ألاحظ‭ ‬أن‭ ‬البعد‭ ‬العاطفي‭ ‬يولّد‭ ‬فجوة،‭ ‬فابني‭ ‬لا‭ ‬يكلّمني‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬الرسائل،‭ ‬وأنا‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬نفقد‭ ‬التواصل‭ ‬تمامًا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نغيّر‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭.”‬

الأم‭  ‬منال‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬أم‭ ‬لثلاثة‭ ‬أطفال‭:‬

جيلنا‭ ‬يعيش‭ ‬صراعًا‭: ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نربّي‭ ‬مثلما‭ ‬ربّانا‭ ‬أهلنا،‭ ‬لكننا‭ ‬نصطدم‭ ‬بعصرٍ‭ ‬مختلف‭ ‬تمامًا‭. ‬ابني‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬“ماما،‭ ‬كل‭ ‬أصدقائي‭ ‬عندهم‭ ‬حرية”،‭ ‬وأنا‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬أشدّ‭ ‬عليه‭ ‬فيكرهني،‭ ‬أو‭ ‬أتركه‭ ‬فينحرف‭.‬

أحيانًا‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬تحتاج‭ ‬صبرًا‭ ‬وفهمًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭.‬

الطالب‭ ‬الجامعي‭  ‬محمد‭ ‬21‭ ‬سنة‭:‬

أنا‭ ‬أحب‭ ‬عائلتي،‭ ‬لكنّي‭ ‬أشعر‭ ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬جزر‭ ‬متفرقة‭.‬

كل‭ ‬واحد‭ ‬مشغول‭ ‬بجهازه‭ ‬أو‭ ‬عمله،‭ ‬لا‭ ‬نتكلم‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ولا‭ ‬نخرج‭ ‬معًا‭ ‬كما‭ ‬كنا‭ ‬أطفالًا‭.‬

أحس‭ ‬أن‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا‭ ‬أصبحت‭ ‬رسمية‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬عاطفية‭.”‬

الطالبة‭  ‬سمية‮ ‬‭ ‬19‭ ‬سنة‭:‬

في‭ ‬طفولتي،‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تجلس‭ ‬معي‭ ‬وتقرأ‭ ‬لي‭ ‬القصص‭ ‬وتعلّمني‭ ‬الدعاء،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فهي‭ ‬مشغولة‭ ‬جدًا‭ ‬بالعمل‭ ‬والهاتف‭.‬

أحيانًا‭ ‬أشتاق‭ ‬لأيام‭ ‬كنا‭ ‬نجتمع‭ ‬حول‭ ‬المائدة‭ ‬ونضحك،‭ ‬لكن‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬اختفت‭.‬

التكنولوجيا‭ ‬قرّبتنا‭ ‬من‭ ‬البعيد،‭ ‬لكنها‭ ‬فرّقتنا‭ ‬عن‭ ‬القريب‭.‬‮       ‬‭                            الطبيب‭ ‬النفسي‭  ‬د‭. ‬ياسين‮ ‬‭ ‬عبداللطيف‭:‬

‭”‬كثير‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬الشباب‭ ‬اليوم‭  ‬من‭ ‬انطواء،‭ ‬وانحراف،‭ ‬وقلق‭  ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬غياب‭ ‬الحاضن‭ ‬الأسري‭ ‬المتماسك‭.‬

الطفل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الأمان‭ ‬والاحتواء‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬سيبحث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬وقد‭ ‬يجده‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬غير‭ ‬آمنة‭.‬

الأسرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحاور‭ ‬أبناءها‭ ‬تفقد‭ ‬تأثيرها‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬وتترك‭ ‬فراغًا‭ ‬تملؤه‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬أو‭ ‬أصدقاء‭ ‬السوء‭.”‬

الحاجة‭ ‬شريفة‭ ‬70‭ ‬عامًا‭:‬

يا‭ ‬بنتي،‭ ‬زمان‭ ‬كانت‭ ‬العيلة‭ ‬وحدة،‭ ‬الكل‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬الكل،‭ ‬والقلوب‭ ‬متصلة‭.‬

اليوم‭ ‬الكل‭ ‬مشغول،‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬حدّ‭ ‬يسمع‭ ‬حدّ‭. ‬كنا‭ ‬نعيش‭ ‬ببساطة‭ ‬لكن‭ ‬بمحبة،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فيعيشون‭ ‬برفاهية‭ ‬ولكن‭ ‬بلا‭ ‬دفء‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى