رتوش

بحيرات بنغازي وحدائق التفاح الذهبي (1-3)

فرج غيث

لوحة‭ ‬فنيّة‭ ‬طبيعية‭ ‬جميلة‭ ‬وهبها‭ ‬الله‭ ‬لنا،‭ ‬يجهل‭ ‬حقيقتها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الليبيون،‭ ‬بل‭ ‬وعبثوا‭ ‬بها،‭ ‬ولم‭ ‬يتركوها‭ ‬حتى‭ ‬تتعايش‭ ‬مع‭ ‬التراث،‭ ‬كنز‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬كبيرة،‭ ‬كان‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬التعريف‭ ‬به،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬الترويج‭ ‬له‭ ‬سياحيا،‭ ‬ولمن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬الفنيّة‭ ‬الطبيعية‭ ‬الجميلة،‭ ‬كنز‭ ‬بنغازي‭ ‬الجميل،‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تأسست‭ ‬عام‭ ‬631‭ ‬ق‭ ‬م،‭ ‬والزاخرة‭ ‬بتاريخ‭ ‬وتراث‭ ‬غني‭ ‬ومتميز،‭ ‬وتعدد‭ ‬الحضارات‭. ‬هي‭ ‬أول‭ ‬مدينة‭ (‬كوزومبوليتية‭) ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬اشتهرت‭ ‬باسم‭ ‬مدينة‭ ‬البحيرات‭ ‬السبع،‭ ‬نسبة‭ ‬لسبع‭ ‬بحيرات‭ ‬فيها،‭ ‬ونهر‭ ‬الليثون‭ ‬الشهير‭ ‬والمقدس‭ ‬أسطورة‭ ‬بنغازي‭ ‬الغامضة‭ ‬الذي‭ ‬يشقها‭ ‬ويجري‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬أرضها‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬صنف‭ ‬بأنه‭ ‬أحد‭ ‬خمسة‭ ‬أنهار‭ ‬سفلية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬تجري‭ ‬تحت‭ ‬الأرض،‭ ‬والمعروفة‭ ‬بأنهار‭ (‬هاديس‭) ‬وهي‭: ‬نهر‭ ‬أكيرون،‭ ‬ونهر‭ ‬كوكتيوس،‭ ‬ونهر‭ ‬فليجيثون،‭ ‬ونهر‭ ‬ليثون،‭ ‬ونهر‭ ‬ستيكس،‭ ‬وقد‭ ‬ذُكر‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الأوروبية‭ ‬القديمة،‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬الشعراء،‭ ‬سُمى‭ ‬بنهر‭ ‬النسيان،‭ ‬ونهر‭ ‬الحياة،‭ ‬ونهر‭ ‬الموت،‭ ‬ونهر‭ ‬الجنون،‭ ‬ونهر‭ ‬العفاريت،‭ ‬ونهر‭ ‬الليثي‭ ‬Lethe،‭ ‬وكلمة‭ ‬الليثي‭ ‬تعني‭ ‬النسيان‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬اللاتينية،‭ ‬كذلك‭ ‬سميت‭ ‬به‭ ‬منطقة‭ ‬الليتي‭ ‬لجريان‭ ‬النهر‭ ‬بها‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يشرب‭ ‬من‭ ‬مياهه‭ ‬العذبة‭ ‬ينسى‭ ‬نفسه‭ ‬ويغرق‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحوريات‭ ‬والموسيقى‭ ‬وسحر‭ ‬المكان،‭ ‬سُمى‭ ‬بنهر‭ ‬النسيان،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يشرب‭ ‬من‭ ‬مياهه‭ ‬العذبة‭ ‬ينسى‭ ‬نفسه‭ ‬ويغرق‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحوريات‭ ‬والموسيقى‭ ‬وسحر‭ ‬المكان،‭ ‬له‭ ‬مدخل‭ ‬وحيد‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬بوعطني‭ ‬شرق‭ ‬المدينة،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬كهف‭ ‬ضخم‭ ‬موجود‭ ‬تحت‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬الحدائق،‭ ‬وعند‭ ‬القاع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬50‭ ‬متر‭ ‬توجد‭ ‬بحيرة‭ ‬جوفية‭ ‬ساكنة‭ ‬يمتد‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له،‭ ‬تاركاً‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬سبع‭ ‬بحيرات‭ ‬خلابة‭ ‬تخطف‭ ‬الألباب،‭ ‬وبها‭ ‬سُميت‭ ‬المدينة‭ ‬قديماً‭.‬

هذه‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬عهود‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الازدهار‭ ‬والانتكاس‭ ‬تبعا‭ ‬لسنة‭ ‬الحياة،‭ ‬فقد‭ ‬تغيرت‭ ‬تسميتها‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬حوالي‭ ‬3000‭ ‬سنة،‭ ‬هيسبريديس،‭ ‬وبرنيكي،‭ ‬وبنغازي‭.‬

استمدت‭ ‬اسمها‭ ‬الاول‭ ‬هيسبريديس‭ ‬من‭ ‬حدائق‭ ‬هيسبريديس‭ ‬الاسطورية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تُحظى‭ ‬ببساتين‭ ‬غنّاء‭ ‬وُصفت‭ ‬بأنها‭ (‬آخر‭ ‬جنّات‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الأرض‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬احتلت‭ ‬حيزا‭ ‬هاما‭ ‬في‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬الإغريقية،‭ ‬واعتبرت‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬الدنيا،‭ ‬فقد‭ ‬ألهبت‭ ‬خيال‭ ‬الشعراء‭ ‬والمؤرخين‭ ‬الذين‭ ‬نسجوا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬حولها‭ ‬وحول‭ ‬البحيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬آلهة‭ ‬الجمال‭ ‬فينوس‭ ‬Venus‭ ‬تسبح‭ ‬فيها،‭ ‬وتذكر‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ (‬هيسبريديس‭) ‬تعني‭ ‬آلهة‭ ‬الغروب‭ ‬الثلاثي‭: ‬إيجل‭ ‬Aegle‭ ‬وإيرثيا‭ ‬Erytheia‭ ‬وهيسبيريا‭ ‬Hesperia‭ ‬واللاتي‭ ‬كن‭ ‬يحرسن‭ ‬شجر‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي‭ ‬المقدس‭ ‬الذي‭ ‬ينعكس‭ ‬بريق‭ ‬وأشعة‭ ‬ثمارها‭ ‬على‭ ‬الأفق‭ ‬عند‭ ‬التقاء‭ ‬السماء‭ ‬بالبحر،‭ ‬فتظهر‭ ‬الشمس‭ ‬النائمة‭ ‬بلونها‭ ‬البرتقالي‭ ‬الجذاب‭ ‬لتكوّن‭ ‬ذلك‭ ‬الغروب‭ ‬الرائع‭.‬

زارها‭ ‬هرقل‭ ‬للاستحمام‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬وبحثاً‭ ‬عن‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي،‭ ‬وتضيف‭ ‬الأساطير‭ ‬الإغريقية‭ ‬القديمة‭ ‬بأن‭ ‬هرقل‭ ‬قد‭ ‬صارع‭ ‬الشيطان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬أرتبط‭ ‬بحدائق‭ ‬شجرة‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي‭ ‬المقدسة،‭ ‬حيث‭ ‬اشتهرت‭ ‬هذه‭ ‬الحدائق‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬مقرا‭ ‬لشجرة‭ ‬التفاح‭ ‬الذهبي‭ ‬المقدسة‭ ‬التي‭ ‬أهدتها‭ ‬المؤلهة‭ ‬‮«‬جى‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬المؤلهة‭ ‬‮«‬هيرا‮»‬‭  ‬بمناسبة‭ ‬زواجها‭ ‬من‭ ‬زيوس‭ ‬كبير‭ ‬المؤلهين‭ ‬عند‭ ‬الإغريق،‭ ‬وتقوم‭ ‬الحوريات‭ ‬الحسناوات‭ ‬الثلاث‭ ‬والتنين‭ ‬الضخم‭ ‬اللآدوت‭ ‬بحراسة‭ ‬البستان‭ ‬والتفاح‭ ‬الذهبي‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الأساطير،‭ ‬وقد‭ ‬نسجت‭ ‬حولها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬الإغريقية‭ ‬المليئة‭ ‬بالأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬المشوقة‭.‬

أُنشئت‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬525‭ ‬ق‭.‬م،‭ ‬فوق‭ ‬مرتفع‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬باسم‭ (‬مقبرة‭ ‬سيدي‭ ‬عبيد‭) ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬نمت‭ ‬وامتدت‭ ‬نحو‭ ‬الجنوب‭ ‬الشرقي‭ ‬بجوار‭ ‬سبخة‭ ‬السلمانى‭ ‬وهي‭ ‬المنطقة‭ ‬المقابلة‭ ‬لمقبرة‭ ‬سيدي‭ ‬أعبيد،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬قد‭ ‬بنيت‭ ‬عند‭ ‬الطرف‭ ‬الشمالي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الممتدة‭ ‬الان‭ ‬من‭ ‬اللثامة‭ ‬وحتى‭ ‬السلماني‭ ‬مرورا‭ ‬بمنطقة‭ ‬الزريرعية،‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ (‬سبخة‭ ‬السلماني‭) ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬السبخة‭ ‬في‭ ‬زمنها‭ ‬القديم‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بحيرة‭ ‬عميقة،‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬تجفيفها‭ ‬تحول‭ ‬سكانها‭ ‬عنها‭ ‬متخذين‭ ‬مكانا‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬ساحل‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬وهو‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬حاليا‭ (‬سيدي‭ ‬خريبيش‭)‬،‭ ‬وتوجد‭ ‬انقاضها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الزريريعية‭ ‬العلوة‭ ‬ومقبرة‭ ‬سيدي‭ ‬اعبيد‭ ‬بالزريريعية،‭ ‬وصممت‭ ‬المدينة‭ ‬لكي‭ ‬تصبح‭ ‬ميناء‭ ‬للظهير‭ ‬الريفي‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬الاطراف‭ ‬الغربية‭ ‬للجبل‭ ‬الاخضر،‭ ‬وتعتبر‭ ‬المدينة‭ ‬آخر‭ ‬حلقة‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬المتعاقبة‭ ‬التي‭ ‬خضع‭ ‬لها‭ ‬حكم‭ ‬قورينائية‭ ‬‭(‬كيرينايكي‭) ‬في‭ ‬فترات‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬تاريخها‭. ‬

‭..‬يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى