
القصيدةُ توجد ولا تعني «ت.س إليوت» ، هي الفوضى المنظمة «سوزان برنار»، كائن حركي مفاجئ «أدونيس» ابنة عائلة مريضة بالحرية «أُنسي الحاج» تمتح مادتها من المهمل «مفتاح العماري»، قصيدة النثر الفوضى الجميلة التمرد، والخلق، والثورة الأبدية.
هناك مَنْ رأى أن مُصطلح قصيدة النثر ترجمته نازك الملائكة بمقابل «الشعر الحر»، الذي كان في حلٍّ من القيد الشّكليّ، والدلاليّ، لكن المفهوم اختلف واستمر خطأ شائعًا على أنه يُرادف مصطلح شعر التفعيلة، وكان الديوان المدروس «من سيرة الأيام الضائعة»، على وعي بهذا المصطلح «الديوان ص6»، «الديوان ص12»:
«أنظر إلى تركة القصائد الحرة التي تركتها
تلك المنفلتة من الجهامة والوصاية البشعة.
وأقول ربما في يوم ما
أكتب قصيدتي الحرة».
«أفكر بطريقة ما
تجعل كل ما كتبته يتبخر لتبقى عظام الشعر في قعر الروح
خافتة وضائعة.
خلابة في الموت والحياة تلك الكلمات التي آمن بها الناس
أنا من أتوه بلا توقف وأزرع رأس العالم بعشب الشعر الحر.»
ويلاحظ أن الشعرية عالية في النص تنمو بسلاسة وحرفية، لا تكلف أو تعسف، لا مأزق يضع المتلقي في حرج من غياب المعنى، بل إنه معنى متجدد وموارب ينفتح على حمولات دلالية لا نهائية، فالتشظي يمنحه مرونة:
شرفة الوهم «الديوان ص16»
من سيرة الأيام الضائعة
من شرفة الوهم الذي ما أتى على شيء إلا وجعله دائخا يسير بلا اتجاه
رأيت كل شيء ناصعًا وأبيضًا كالحليب
الناس بلا ملامح والطيور تمشي على الأرض.
رأيتُ الأنوارَ المشعة لكل الأفكار تخفت وتذوب
رأيتُ السرَ يمشي عاريًا في الشارع ولا يبالي به أحد
نزلتُ بالحروف فارتجفَ الكونُ
نزلتُ بالمعنى الكامل
فرأيتك تسأل أين أنا من كل هذا؟!
رأيتُ صوتك يتحطم في الصدى
مضتْ الأيام وتهدمتْ الشرفة
فات الوقت على الحب وصرت حلمًا بعيدًا
رفعتُ يدي ولوحتُ للفراغ
لوحتُ للأيام الجميلة، ومشيتُ.
«من سيرة الأيام الضائعة» مُفتتح متن القصيدة وعتبة الديوان، غالبًا ما يُعنون الديوان بعنوان القصيدة البؤرة، لكن هذا الديوان أخذ من بداية قصيدة عتبة له، «من» الدالة على التبعيض و«السيرة» التي تُقدم بتجليات عدة، و سيرة «الأيام» التي تُروى ليستْ معتبرة، و«للضائعة» منها أيضًا حق في التأريخ، هذا القلبُ يُشكل جملة من التساؤلات، من قبيل: أي ضياع حملته تلك الأيام؟ ولماذا يستحق التأريخ شعرًا؟ وما هي السيرة المحجوبة التي سرد الديوان بعضًا منها؟
تُجيب عتبة القصيدة عن بعض الفجوات «شرفة الوهم»، عنوان استعاري، والاستعارة ضرورة لا فسحة تعبيرية؛ حيث لا يمكن قول تركيب يؤدي ما تؤديه، كما أن تأثيراتها متفاوتة من متلق إلى آخر، هذا الوهم الضخم الذي تنبعث من شرفته أشعة تجعل الأشياء على غير اتزانها، فالطيور تتوقف عن الطيران، وتستبدل التحليق بالسير على الأرض، والأفكار التي المضيئة معتمة وخافتة حد التلاشي، والسر الذي من عادته التخفي، يمشي عاريًا، وخروجه من مخبئه مستوى أول لتجاوز العادة؛ فهو لا يكتفي بذلك بل يتجرد من كل ما يستره في مستوى ثانٍ للخرق، أما ردة الفعل على خروجه «لا مبالاة المتلقي»؛ فهي المستوى الثالث، وفي تكرار النزول نواة دلالية تُضمّد المعنى السابق في عمقها، وإن بدتْ مستقلة في الإيقاع والسطر الشعري الذي يمثل نوعًا من الإيقاع «أدونيس»، ينفتح النص بورود المضي، والهدم وفوات الوقت على الحب، في اتحاد بينه وبين الوهم والضياع، والفعل الماضي الذي غيم على القصيدة، لا يجعل منها حدثًا غابرًا، بل ينتهي إلى عدمية تجعل كل ما مضى يشبه الآتي.



