ثقافة

 قراءة في ديوان (من سيرة الأيام الضائعة)

أ‌. اشتيوية محمود

القصيدةُ‭ ‬توجد‭ ‬ولا‭ ‬تعني ‭ ‬‮«‬ت‭.‬س‭ ‬إليوت‮» ‬،‭ ‬هي‭ ‬الفوضى‭ ‬المنظمة‭ ‬‮«‬سوزان‭ ‬برنار‮»‬،‭ ‬كائن‭ ‬حركي‭ ‬مفاجئ‭ ‬‮«‬أدونيس‮»‬‭ ‬ابنة‭ ‬عائلة‭ ‬مريضة‭ ‬بالحرية‭ ‬‮«‬أُنسي‭ ‬الحاج‮»‬‭ ‬تمتح‭ ‬مادتها‭ ‬من‭ ‬المهمل‭ ‬‮«‬مفتاح‭ ‬العماري‮»‬،‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬الفوضى‭ ‬الجميلة‭ ‬التمرد،‭ ‬والخلق،‭ ‬والثورة‭ ‬الأبدية‭.‬

هناك‭ ‬مَنْ‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬مُصطلح‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬ترجمته‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬بمقابل‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الحر‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حلٍّ‭ ‬من‭ ‬القيد‭ ‬الشّكليّ،‭ ‬والدلاليّ،‭ ‬لكن‭ ‬المفهوم‭ ‬اختلف‭ ‬واستمر‭ ‬خطأ‭ ‬شائعًا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬يُرادف‭ ‬مصطلح‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة،‭ ‬وكان‭ ‬الديوان‭ ‬المدروس‭ ‬‮«‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الأيام‭ ‬الضائعة‮»‬،‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬بهذا‭ ‬المصطلح‭ ‬‮«‬الديوان‭ ‬ص6‮»‬،‭ ‬‮«‬الديوان‭ ‬ص12‮»‬‭:‬

‮«‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬تركة‭ ‬القصائد‭ ‬الحرة‭ ‬التي‭ ‬تركتها

تلك‭ ‬المنفلتة‭ ‬من‭ ‬الجهامة‭ ‬والوصاية‭ ‬البشعة‭.‬

وأقول‭ ‬ربما‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬

أكتب‭ ‬قصيدتي‭ ‬الحرة‮»‬‭.‬

‮«‬أفكر‭ ‬بطريقة‭ ‬ما

تجعل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬يتبخر‭ ‬لتبقى‭ ‬عظام‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬الروح

خافتة‭ ‬وضائعة‭.‬

خلابة‭ ‬في‭ ‬الموت‭ ‬والحياة‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬آمن‭ ‬بها‭ ‬الناس‭ ‬

أنا‭ ‬من‭ ‬أتوه‭ ‬بلا‭ ‬توقف‭ ‬وأزرع‭ ‬رأس‭ ‬العالم‭ ‬بعشب‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭.‬‮»‬

ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الشعرية‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬تنمو‭ ‬بسلاسة‭ ‬وحرفية،‭ ‬لا‭ ‬تكلف‭ ‬أو‭ ‬تعسف،‭ ‬لا‭ ‬مأزق‭ ‬يضع‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬حرج‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬المعنى،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬معنى‭ ‬متجدد‭ ‬وموارب‭ ‬ينفتح‭ ‬على‭ ‬حمولات‭ ‬دلالية‭ ‬لا‭ ‬نهائية،‭ ‬فالتشظي‭ ‬يمنحه‭ ‬مرونة‭:‬

شرفة‭ ‬الوهم‭ ‬‮«‬الديوان‭ ‬ص16‮»‬

من‭ ‬سيرة‭ ‬الأيام‭ ‬الضائعة‭ ‬

من‭ ‬شرفة‭ ‬الوهم‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬أتى‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬وجعله‭ ‬دائخا‭ ‬يسير‭ ‬بلا‭ ‬اتجاه

رأيت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ناصعًا‭ ‬وأبيضًا‭ ‬كالحليب‭ ‬

الناس‭ ‬بلا‭ ‬ملامح‭ ‬والطيور‭ ‬تمشي‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

رأيتُ‭ ‬الأنوارَ‭ ‬المشعة‭ ‬لكل‭ ‬الأفكار‭ ‬تخفت‭ ‬وتذوب

رأيتُ‭ ‬السرَ‭ ‬يمشي‭ ‬عاريًا‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬ولا‭ ‬يبالي‭ ‬به‭ ‬أحد‭ ‬

نزلتُ‭ ‬بالحروف‭ ‬فارتجفَ‭ ‬الكونُ‭ ‬

نزلتُ‭ ‬بالمعنى‭ ‬الكامل‭ ‬

فرأيتك‭ ‬تسأل‭ ‬أين‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا؟‭!‬

رأيتُ‭ ‬صوتك‭ ‬يتحطم‭ ‬في‭ ‬الصدى‭ ‬

مضتْ‭ ‬الأيام‭ ‬وتهدمتْ‭ ‬الشرفة

فات‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬وصرت‭ ‬حلمًا‭ ‬بعيدًا‭ ‬

رفعتُ‭ ‬يدي‭ ‬ولوحتُ‭ ‬للفراغ

لوحتُ‭ ‬للأيام‭ ‬الجميلة،‭ ‬ومشيتُ‭. ‬

‮«‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الأيام‭ ‬الضائعة‮»‬‭ ‬مُفتتح‭ ‬متن‭ ‬القصيدة‭ ‬وعتبة‭ ‬الديوان،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يُعنون‭ ‬الديوان‭ ‬بعنوان‭ ‬القصيدة‭ ‬البؤرة،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬أخذ‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬قصيدة‭ ‬عتبة‭ ‬له،‭ ‬‮«‬من‮»‬‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬التبعيض‭ ‬و«السيرة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تُقدم‭ ‬بتجليات‭ ‬عدة،‭ ‬و‭ ‬سيرة‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تُروى‭ ‬ليستْ‭ ‬معتبرة،‭ ‬و«للضائعة‮»‬‭ ‬منها‭ ‬أيضًا‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬التأريخ،‭ ‬هذا‭ ‬القلبُ‭ ‬يُشكل‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التساؤلات،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬أي‭ ‬ضياع‭ ‬حملته‭ ‬تلك‭ ‬الأيام؟‭ ‬ولماذا‭ ‬يستحق‭ ‬التأريخ‭ ‬شعرًا؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬السيرة‭ ‬المحجوبة‭ ‬التي‭ ‬سرد‭ ‬الديوان‭ ‬بعضًا‭ ‬منها؟

تُجيب‭ ‬عتبة‭ ‬القصيدة‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الفجوات‭ ‬‮«‬شرفة‭ ‬الوهم‮»‬،‭ ‬عنوان‭ ‬استعاري،‭ ‬والاستعارة‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬فسحة‭ ‬تعبيرية؛‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قول‭ ‬تركيب‭ ‬يؤدي‭ ‬ما‭ ‬تؤديه،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تأثيراتها‭ ‬متفاوتة‭ ‬من‭ ‬متلق‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬هذا‭ ‬الوهم‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬شرفته‭ ‬أشعة‭ ‬تجعل‭ ‬الأشياء‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬اتزانها،‭ ‬فالطيور‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الطيران،‭ ‬وتستبدل‭ ‬التحليق‭ ‬بالسير‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬المضيئة‭ ‬معتمة‭ ‬وخافتة‭ ‬حد‭ ‬التلاشي،‭ ‬والسر‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬عادته‭ ‬التخفي،‭ ‬يمشي‭ ‬عاريًا،‭ ‬وخروجه‭ ‬من‭ ‬مخبئه‭ ‬مستوى‭ ‬أول‭ ‬لتجاوز‭ ‬العادة؛‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بذلك‭ ‬بل‭ ‬يتجرد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يستره‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ثانٍ‭ ‬للخرق،‭ ‬أما‭ ‬ردة‭ ‬الفعل‭ ‬على‭ ‬خروجه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬مبالاة‭ ‬المتلقي‮»‬؛‭ ‬فهي‭ ‬المستوى‭ ‬الثالث،‭ ‬وفي‭ ‬تكرار‭ ‬النزول‭ ‬نواة‭ ‬دلالية‭ ‬تُضمّد‭ ‬المعنى‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬عمقها،‭ ‬وإن‭ ‬بدتْ‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬الإيقاع‭ ‬والسطر‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الإيقاع‭ ‬‮«‬أدونيس‮»‬،‭ ‬ينفتح‭ ‬النص‭ ‬بورود‭ ‬المضي،‭ ‬والهدم‭ ‬وفوات‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬الحب،‭ ‬في‭ ‬اتحاد‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الوهم‭ ‬والضياع،‭ ‬والفعل‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬غيم‭ ‬على‭ ‬القصيدة،‭ ‬لا‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬حدثًا‭ ‬غابرًا،‭ ‬بل‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬عدمية‭ ‬تجعل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬يشبه‭ ‬الآتي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى