من الشاشة إلى المجتمع..كيف يمكن للسينما أن تغيّر الواقع الليبي؟
محمد بن سعود.. مؤسسة ليبيا للأفلام

حين ننظر إلى التجربة العربية في علاقتها بالسينما، ندرك أنّ هذه الأداة الفنية لم تكن مجرّد وسيلة للتسلية، بل كانتْ مرآةً للمجتمع ووسيلة لتوجيه النقاش العام؛ فمصر جعلتْ من السينما مدرسة كبرى لطرح القضايا الاجتماعية والسياسية، والجزائر حوّلتها إلى أداة لحفظ ذاكرة المقاومة، أما )تونس والمغرب( فاستخدمتاها لمناقشة أسئلة الحرية والحداثة.
مؤسسة ليبيا للأفلام
في المقابل، ظلّتْ «ليبيا» بعيدةً عن هذا المسار، ما يطرح سؤالًا نقديًّا لا يمكن تجاوزه : ماذا يعني أن يُحرَم مجتمع كامل من شاشة تعبر عن ذاته، وتساعده على إعادة التفكير في ماضيه وحاضره؟.
إنّ غياب السينما في ليبيا لا يُختزل في غياب دور العرض، أو ضعف الإنتاج، بل يتعداه إلى حرمان المجتمع من أداة تحليل جماعي، ومن وسيط ثقافي قادر على تحويل الأسئلة الكبرى إلى صور حيّة.
هذا الغياب يجعلنا نعيد التفكير في موقع السينما داخل مشروع وطني يسعى إلى إعادة بناء الإنسان والمجتمع، حتى وإن لم يكن إنتاجًا محليًا فعليًا في اللحظة الراهنة.
السينما قوة لصياغة الوعي
السينما في جوهرها ليستْ ترفيهًا، بل وسيلة للتفكير الجمعي؛ ففي مصر، تناول «صلاح أبوسيف» قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية، في حين اشتُهر «يوسف شاهين» برؤية فلسفية عن علاقة الفرد بالسلطة، والمجتمع.
هذه الأفلام لم تكن محصورة في قاعات العرض، بل أثّرتْ في النقاش العام، ووصلتْ إلى شرائح واسعة من الناس.
وفي الجزائر، لم يكنْ فيلم «معركة الجزائر» مجرد عمل فني، بل وثيقة تاريخية جعلتْ العالم بأسره يتعرّف على تجربة شعب يقاوم الاستعمار.
أما المغرب وتونس، فقد استثمرتا السينما في فتح نقاشات جريئة عن المجتمع والفرد والهُوية، لتصير الأفلام هناك جزءًا من حوار مجتمعي متواصل.
هذه الأمثلة توضّح أنّ السينما ليستْ وسيلة كمالية، بل هي مدرسة شعبية تفتح أعين النَّاس على قضاياهم، وتدفعهم إلى إعادة تقييم مواقفهم.
ليبيا والفراغ البصري
في الحالة الليبية، لم يتحقَّق هذا الدور بالقدر الكافي، فالمجتمع الليبي ظلّ معتمدًا على وسائل بديلة لسرد قصته، مثل: الشِّعر والمجالس الشعبية، وأخيرًا وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي.
لكن هذه الوسائط -على أهميتها- لا تملك قوة الصورة السينمائية التي تجمع بين الإبداع الفني والقدرة على التوثيق.
إنّ غياب السينما جعل الليبيين يستهلكون سرديات الآخرين؛ يشاهدون أفلامًا أجنبية، أو عربية تعبّر عن قضايا مجتمعات مختلفة، فيما تبقى قصتهم الخاصة بلا أرشيف بصري يُوثّقها، وهذا يعني أنّ الذاكرة الوطنية تُبنى بنصوص مكتوبة وخطابات سياسية، لكنّها تفتقد ذلك البعد البصري المؤثر الذي يجعل التجرِبة أكثر حضورًا في وعي الأجيال القادمة.
السينما أداة لتحليل الواقع
المجتمع الليبي يعيش منذ عقود أزمات متراكمة: انقسامات سياسية، وصراعات وتحوّلات ثقافية.
في مثل هذه السياقات، يمكن أن يكون للسينما دورٌ محوري في نقل هذه القضايا إلى مساحة النقاش العام، وأن تساعد في بناء وعي نقدي جماعي، فالفيلم قادرٌ على طرح سؤال الهوية بطريقة تصل إلى شرائح لا تصل إليها البحوث الأكاديمية أو الخطب السياسية، ثم إنّه يتيح للنَّاس أن يروا أنفسهم داخل صورة أكبر، ويتأملوا مشكلاتهم من زاوية جديدة.
إنّ غياب هذا الوسيط جعل النقاش في قضايا مصيرية يظل حبيسًا للنخب السياسية أو الأكاديمية، دون أن يجد طريقه إلى عامة النَّاس، وهذا يفسّر لماذا يشعر كثير من الليبيين أنّ قضاياهم الكبرى تُناقش في فضاءات مغلقة لا تمسّ حياتهم اليومية على نحو مباشر.
أمثلة عربية ملهمة
حين نعود إلى التجربة الجزائرية، نجد أنّ فيلم )وقائع سنوات الجمر( لمخرجه محمد الأخضر حمينة، الذي كان أول فنان عربي وإفريقي يفوز بـ«السعفة الذهبية» في مهرجان «كان»، لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل هو رسالة للعالم بأن الجزائر تمتلك ذاكرة حيّة لا يمكن محوها.
وفي تونس، تحوّلتْ )أيام قرطاج السينمائية( إلى فضاء يعبر عن قضايا المنطقة ويتيح مناقشتها.
وفي مصر، ناقشتْ السينما قضايا الهجرة غير النظامية والفقر والأمية، لتصل إلى القرى والأحياء الشعبية وتفتح نقاشًا بين النّاس.
هذه النماذج تؤكد أنّ السينما قادرة على الوصول إلى عمق المجتمع وتحريك وعيه، بما يتجاوز حسب رأيي دور الأدب أو الصحافة.
نماذج ليبية: «حقول الحرية»، و«بطلة»
في تجارِب تؤكد أن السينما الليبية أوسع من الترفيه؛ يوثّق فيلم حقول الحرية «2018» للمخرجة نزيهة عريبي مسيرة ثلاث لاعبات كرة قدم في ليبيا ما بعد الثورة عبر سنوات من التحوّلات، كاشفًا تداخل الحلم الرياضي مع القيود الاجتماعية، وقد حظي بعروض ومشاركات دولية بارزة.
أمّا الوثائقي القصير بطلة «2024» للمخرج محمد مصلي فيتتبع قصة «سعاد»، لاعبة رفع أثقال من تاورغاء من ذوات الإعاقة، ويُظهر كيف يمكن للفيلم أن يُحدث أثرًا اجتماعيًّا مباشرًا )حلّ مشكلات تتعلق بمعاشها وتوفير نقل للتدريب(، بما يجعل الشاشة مساحة فعلٍ مدنيٍّ لا مجرّد سرد.
تكمن أهمية هذين العملين في قدرتهما على توسيع وعي المجتمع تجاه قضايا المرأة والرياضة وذوي الإعاقة، فلم تقتصر رسالتهما على التوثيق الفني، بل تحولتْ إلى فكرة المساهمة في تغيير واقع ملموس.
وهكذا، يمكن القول إن حرمان مجتمعٍ من السينما هو في جوهره حرمانٌ من وسيلةٍ لفهم ذاته.
لقد خسرتْ ليبيا أكثر من مجرد صالات عرض، إذ فقدتْ فرصة أن ترى نفسها في مرآة جامعة تحفظ ذاكرتها وتناقش قضاياها.
السينما ليست ترفًا، بل هي ضرورةٌ لصناعة الوعي وتوثيق التاريخ وبناء المستقبل،
وربما ستظل الأجيال القادمة تتساءل: لماذا لم يكن لنا أرشيفٌ بصري يروي قصتنا؟.
ولماذا غابت الشاشة التي تجمعنا حول سردية مشتركة؟
أسئلةٌ تحمل في طيّاتها مرارة الواقع، لكنها في ذات الوقت تفتح باب الأمل والتفكير؛ لتذكّرنا بأن غياب السينما عن ليبيا لم يكن قدرًا محتومًا، بل نتيجة خياراتٍ كان يمكن تجاوزها لو آمنّا بدورها في بناء الوعي الجماعي.



