
المتتبع لمجريات الأمور في بلادنا لا يستطيع الفرار من حالة الصدمة، والتعجب التي تكاد في كثير من الأحيان أن تصل إلى حد الهستيريا والهلوسة ويبدو أننا فعلًا نتعامل مع حبوب الهلوسة بود مريب .. فبالبرغم من أن صراخنا يكاد يشق عنان السماء رفضًا لكل التلاعب السياسي والاقتصادي والاداري والذي شمل جميع هياكل الدولة وأدواتها حتى لكأنها تبدو في نظر الشعب كالبهلوان الذي يضحك على الناس باضحاكهم وامتصاص جهودهم في تسويق لا ينتمي إلا للتفاهة والهزل السمج تمامًا كما وصفته الذاكرة الشعبية بالخانب الضحاك الذي يسرقك زي ما نقولوا بضحكة ولعبة .
بالرغم من وعينا لمرارة ما نعيشه وسطوة اللامبالاة من طرف الحكام الجدَّد فإننا نرى تزايدًا خطيرًا في معدل تنامي التفاهة التي صار كالطفيل وحيد الخلية البروتوزوا الذي يتكاثر بالانقسام الذاتي ويتوالد حتى يغزو الجسد ويقهره بالمرض وصولًا إلى الموت .
هذه الحالة سياسية وتدار بتؤدة وبشكل في الكثير من الخبث لتدير بلد بأسره من خلال أسلوب المهرج والبهلوان .
وأقول أنها حالة سياسية بإمتياز ليس بسبب تفكير ارتيابي ولا بتأثير نظرية المؤامرة ولكن بسبب أنها واقع نعيشه ويشمل كل أركان الدولة ومحتوياتها أيضًا ومشتملاتها .
فالتفاهم موجهة بشكل احترافي لصرف الانتباه عن الأزمات الخانقة التي يعاني منها الشعب الليبي في جميع مايتعلق به من جوانب الوجود والحياة والتي لا ينكرها إلا موظف في شركة البهلوان، أو مجنون لا يميز بين الخبيث والطيب .
ولنأخذ مثلاً رالي (تي تي) الذي من اسمه يبدو تافهًا ومكرسًا لأمور دبرت بليل .. فلفظ «تي تي» هو نداءٌ يستخدم شعبيًا لمناداة (الدجاج) من أجل اطعامه، أو إمساكه لتقديمه للطنجرة !
الحدث موجه لشريحة مترفة من حديثي الثراء، أو لصوص المال العام، أو أبناء المسؤولين الذي تلطخت أيديهم بكل ما هو مناف للأخلاق والقيم والذي يتجمعون تحت ذريعة الرالي ليعيشوا الوهم الذي يغذيهم، ويعوضوا النقص الذي يخنقهم بإصدار أجواء فوقية يفرزونها على جموع الشعب الذي يشكل غالبية الحضور دونما قدرة على المشاركة .. فالظروف العامة للشعب لا تسمح سوى بالتفرج على مسىحيات متصدري المشاهد السياسية والاقتصادية والعسكرية وأصحاب النفوذ الطبالة واللحاسة بمعنى أوضح السؤال الذي يشغلني ليس «تي تي» ولا غيره من مظاهر تجليات التفاهة وتسويقها بل هو في مستوى ادارك الشعب لما يجري حولة وما يراد به وله وهل نعي حقًا حجم الاستخفاف بنا كشعب يتطلع لحياة حقيقية خارج أوهام تسوقها لها الحكومات .
هل نعي فعلا كليبيين معنى الوطن والبلد والفرق بين الحقيقة والوهم .. أم أننا قد غرقنا واستغرقنا في التفاهة والفساد .
تحضرني قصة لمجنون ذهب لسوق الحوت ليشتري سمكًا، وحين أمسك بالسمكة أخذ يشمها من ذيلها، ويفحص الذيل وحين سُئل عن ماذا يفعل؛ أخبرهم بأنه يريد أن يعرف ما إذا كانت فاسدة، أو صالحة للأكل . فضحك الحاضرون وأخبروه أن هذا الفحص في رأس السمكة وليس من ذيلها .. فأجابهم أعرف ذلك وأعرف أيضًا أن رأس السمكة فاسدٌ، وغير صالح إنما أردتُ معرفة ما إذا كان الفساد قد وصل الذيل أم لا .!



