ثقافةفنون

جماليات العرض المسرحي بين الدهشة والتأمل حين يصبح الجمال لغة تفكير تتجاوز المشهد إلى المعنى

 قراءة / نصرالدين علي

 

في كل تجربة مسرحية حقيقية، ثمة لحظة صامتة تسبق انطفاء الأضواء وارتفاع الستار، لحظة تُختَصر فيها كل الحِرفية، والرهان، والقلق الإبداعي، ليولد بعدها فعلٌ مسرحيٌّ يتجاوز المشهد إلى الفكرة، ويتجاوز الحكاية إلى الوعي. فالجمال في المسرح ليس زينة شكلية تُضاف إلى العمل، بل هو بنية داخلية تُنسج من التفاعل العميق بين النص، والمخرج، والممثل، والإضاءة، والصوت، والفضاء، والجمهور. ما شهدناه من عروضٍ تنوّعت في رؤاها ومقارباتها الإخراجية خلال المهرجان الأخير، كشف عن طاقات جمالية تتفاوت في مستوى النضج، لكنها تتفق في سعيها الحثيث لملامسة جوهر الإنسان. فثمّة من اشتغل على الصورة البصرية بوصفها مدخلًا إلى الدلالة، حيث تحوّلت الحركة إلى خطابٍ رمزيٍّ، والإضاءة إلى لغةٍ موازيةٍ للنص، فيما ذهب آخرون إلى تفكيك العلاقات الدرامية التقليدية، وبناء فضاءٍ تتقاطع فيه الأسئلة أكثر مما تُطرح فيه الإجابات. في بعض العروض، تَجلّى الحضور الجمالي في الاقتصاد التعبيري: ممثلون ، مساحة ضيقة، لكن طاقة الأداء وانضباط الإيقاع جعلا من البساطة مسرحًا مُدهشًا. أما في أخرى، فقد كان الاشتغال على المشهد البصري ثريًا إلى حدٍّ جعل المتفرج ينسى الحوار أمام غنى الصورة. ومع ذلك، يبقى التحدي في أن لا تتحوّل الجماليات إلى ترفٍ بصريٍّ معزول عن المعنى، بل أن تكون خادمة للفكرة ومُولّدة للإحساس. لقد أظهرت بعض الأعمال وعيًا ملحوظًا بلغة الجسد، إذ اعتمدت الحركة المسرحية لا كإيضاحٍ للنص، بل كحاملٍ للفكرة، كأن الممثل هنا يكتب بجسده ما لا يُقال بالكلمات. بينما لجأت عروض أخرى إلى الرمز المفرط، فغاب التواصل اللحظي مع المتلقي، وهو ما يضعنا أمام إشكالية قديمة متجددة: كيف نوازن بين العمق والتلقي، بين الفكر والمتعة؟ ومن الزاوية الإخراجية، يمكن ملاحظة عدم تطور في حسّ الصورة المسرحية لدى بعض المخرجين الشباب، الذين باتوا أكثر إدراكًا للعلاقة، بين الضوء والزمن المسرحي. إلا أن هذا التطور الجمالي، على أهميته، يحتاج إلى مزيد من التوازن بين البنية الشكلية والبعد الإنساني، حتى لا يتحول العرض إلى تمرينٍ بصريٍّ جميل لكنه بارد. الجمهور، بدوره، كان شريكًا في صياغة هذه الجماليات. فقد بدا أكثر استعدادًا لتلقي عروضٍ تجريبية لا تخضع للنمط المألوف، وأكثر تقبّلًا لفعلٍ مسرحيٍّ يشتغل على الإيحاء لا التصريح، وعلى الفكرة لا الحكاية. هذا التفاعل الإيجابي يؤكد أن الذائقة المسرحية تنمو حين يجد المتفرج نفسه أمام جمالٍ لا يقدَّم له جاهزًا، بل يدعوه إلى التفكير والمشاركة. إنّ جماليات المسرح ليست مجرد مؤثراتٍ فنية، بل هي وعي جمالي متكامل، يُعيد تعريف العلاقة بين الفن والحياة. فحين ينجح العرض في أن يوقظ السؤال داخلنا، ويزرع فينا شيئًا من الدهشة أو القلق الجميل، فإنه يكون قد حقق غايته الكبرى: أن يجعل من الخشبة مرآةً للروح، لا للزينة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى