تغيب السيولة .. يحضر تجار المرتبــات والألف بـ 200 !!

بين طوابير المصارف، وأجهزة الصراف التي تتعطل فجأة، و«الوسطاء» الذين استغلوا الأزمة ليتحولوا إلى تجار نقدٍ، يعيش المواطن في دوامة لا تنتهي من القلق والإهانة.
باتت عبارة “نزل المرتب” لا تعني انفراجًا، بل بداية صراعٍ جديد: كيف يمكن سحب هذا المرتب؟ وكم سيفقد منه قبل أن يصل إلى يده؟
هل كانت البطاقة المصرفية فعلًا حلًّا كما رُوِّج لها؟ أم أنها مجرد واجهة لتغطية عجز المنظومة المصرفية؟
وهل ما زالت الشيكات المصدقة و«الحرق» طرقًا اضطرارية، أم أصبحت تجارة منظمة تنهك المواطن أكثر مما تنقذه؟
أسئلة كثيرة طرحناها على مواطنين من مختلف المدن، فجاءت الإجابات محملة بالوجع، والغضب، وأحيانًا بالسخرية السوداء.
مرتب ناقص 200 دينار… ورضيت بالواقع
يقول عبد الله موظف في قطاع التعليم:
“مرتبنا ينزل في المصرف، لكن السيولة ما فيش. نضطر نمشي لمكاتب الصرافة. يعطوك الكاش، لكن ياخدوا منك نسبة على كل ألف دينار، 200 دينار تروح. يعني مرتبك ناقص قبل حتى ما توصله. مرة حسبتها، لقيت إنّي خلال سنة خسرت أكثر من مرتب كامل بسبب الخصومات.”
يضحك بمرارة، ويضيف:
“المصرف يكلمني عن الخدمات الإلكترونية، والبطاقة، لكن حتى المكينات فاضية، والبطاقة مرات تتوقف، ومرات يقولك خدمة غير متاحة. بالله هذا حل؟”.
شيك مصدق بثمن العذاب
كريمة موظفة في قطاع الصحة تروي حكايتها مع الشيك المصدق:
“لما يكون عندك شيك مصدق، لازم تمشي للمصرف، وتبدأ رحلة التوقيعات والدمغات. وبعدها، ما تعرفش إذا الشيك بيتم صرفه اليوم أو بعد أسبوع. وفي النص، تلاقي ناس واقفة تعرض تساعدك: عطوك المبلغ كاش اليوم، بس ناخد نسبة. يعني حتى الشيك اللي المفروض مضمون، صار تجارة!”.
وتتابع:
والله يا بنتي، نحس روحي أشتغل نص الشهر للمصرف، والنص الثاني للصراف. المرتب اللي المفروض يفرحني، صار عبء”.
الحرق… تجارة معاناة
أما إسماعيل موظف في إحدى الجهات العامة، فيروي واحدة من أكثر الحكايات غرابة:
عندنا طريقة يسموها الحرق يعني تنزل المرتب في حساب شخص ثاني في مصرف تاني عنده سيولة، وهو يعطيك الكاش مقابل خصم. مرة اضطرّيت نحرق مرتبي بـ 900 دينار، يعني خسران 100 دينار بس باش نتحصل على كاشي.”
ويضيف:
المشكلة مش في المواطن، المشكلة في المنظومة اللي خلت الناس تتاجر في عرق المواطن. بدل ما المصرف يوفر حلول حقيقية، خلاهم يفتحوا باب للابتزاز”.
البطاقة المصرفية.. حل مؤقت تحول إلى مأزق دائم”
تقول عائشة موظفة في جهة خدمية:
لما طلعت البطاقة قالوا خلاص، الأزمة انتهت. بس الحقيقة لا. في محلات ما يقبلوش البطاقة، واللي يقبلوها يضيفوا نسبة زيادة 10% أو 15%. يعني بدل ما تسهل علينا، زادت الأسعار علينا.
وتضيف بأسى:
حتى الماكينات في المصارف، كل يوم عذر. مرة خارج الخدمة، ومرة نفذت السيولة حسّينا رواتبنا مجرد أرقام على الشاشة مش أكثر.
بين المصرف والواقع… معاناة لا تنتهي”
الحاج علي ، موظف متقاعد، يقول بصوت يملؤه التعب:
نقعد من الفجر نبي نسحب معاشي. واقف في الصف من الساعة 6 الصبح، والمصرف يفتح 9، وبعدين يقولولك السيولة خلصت! شن ذنبي؟ معاشي حقي، مش منّة من حد.
ثم يتنهد:
والله تعبنا. ما نبي نعيش برفاهية، بس نبي نعيش بكرامة”.
من طوابير المصرف إلى طوابير الصرافة
يقول عبد العاطي موظف في شركة اتصالات:
تعبت من الدور الطويل في المصرف، من الخامسة صباحًا وأنا واقف، وفي النهاية يقولولك السيولة خلصت. تمشّي للصرافة تلقى الازدحام نفسه، والكل متوتر ومتعصب. حسّيت كأني داخل طابور جبهة مش طابور مصرف.
ويضيف بتهكم:
كل يوم نحس المرتب هذا مش مكافأة تعب، بل امتحان صبر. لازم تمرّ على ثلاث طوابير ودفعتين خصم قبل ما توصله.
بطاقة بلا رصيد… وصراف بلا خدمة”
فاطمة موظفة في قطاع الكهرباء تقول:
أصبحت البطاقة عبء مش وسيلة. مرات نبي نشتري حاجات ضرورية، نمشي للمحل يقول سيستم طايح أو لماكينة واقفة مرات حتى لما نحاول نسحب من الصراف، تطلعلك ورقة مكتوب فيها خارج الخدمة. وكأن المصارف تسخر منا.”
ثم تتابع بحسرة:
صار عندي بطاقتين في مصرفين مختلفين، لكن النتيجة نفسها. البطاقة شكل حضاري فقط، بلا مضمون.”
حرق المرتب… نار تأكل الجيوب”
يضحك عبد الرحمن بمرارة وهو يحكي:
الحرق حلّ مؤقت، بس والله كأنه اسم على مسمى… يحرق في الجيب! يعني مرتبي 1500، ناخده بـ 1300، والباقي يطير. لكن شن ندير؟ مرات نحتاج كاش ضروري للدواء أو الإيجار.”
ويضيف:
زمان الحرق كان استثناء، اليوم صار عادة شهرية. كل الناس تحرق مرتباتها لأنها الطريقة الوحيدة باش توصلك فلوسك.”
تجار المرتبات… السوق السوداء الجديدة”
محمد موظف في جهة حكومية يروي جانبًا مظلمًا من الأزمة:
صار في ناس تخصصت في بيع وشراء المرتبات! يعني واحد عنده سيولة يلم مرتبات الناس بخصم، ويكسب من وراها آلاف. الأزمة خلقت سوق كاملة غير قانونية، بس الكل مضطر يتعامل معاها.”
ويضيف بلهجة غاضبة:
“وين المصرف المركزي من كل هذا؟ وين الرقابة؟ المواطن يُسرق في وضح النهار، والدولة تتفرج!
المتقاعد… بين الإهانة والنسيان يتحدث “الحاج فرج”، متقاعد من القطاع العام، بصوتٍ واهن:
نطلع من الفجر باش نوصل للمصرف قبل الزحمة. لكن لما نوصل، يطلع المدير يقول السيولة خلصت، أو الماكينة عاطلةمرة رجعت للدار من غير ما نسحب دينار واحد.” ثم يمسح دمعة على خده ويقول:
أنا خدمت الدولة أربعين سنة، واليوم نحس روحي شحات على باب المصرف. وين كرامة المتقاعد؟ وين يقول إحدى الخبراء الاقتصاديون أن أزمة السيولة في ليبيا
ليست مجرد مشكلة نقدية، بل انعكاس لأزمة إدارة وثقة بين المواطن والمصارف.
فالمصرف المركزي ما زال يتحدث عن “توازن نقدي” و”سياسات رقابية”، بينما المواطن يقف في طوابير طويلة ليحصل على فتات من حقه.
أما الصرافات ومكاتب الخدمات، فقد تحولت إلى بدائل موازية للمصارف الرسمية، تستغل حاجة الناس وتفرض نسبًا مجحفة دون رقيب أو ضابط.
ختاما … رسالة إلى مصرف ليبيا المركزي
إلى مصرف ليبيا المركزي، نقولها بصوت المواطن:
إلى متى يستمر هذا الإذلال المالي؟
إلى متى يبقى الموظف يشتري حقه من مرتبه؟
أين الخطط الواقعية لتخفيف المعاناة؟ وأين الرقابة على مكاتب الصرافة التي تنهش في رواتب الناس؟
لقد سئم المواطن من الشعارات، ومن الأرقام التي تتحدث عن “استقرار مالي” لا يراه إلا في البيانات الرسمية.
الليبي اليوم لا يريد معجزة… يريد فقط أن يقبض مرتبه بكرامة.
الكاش يصبح
حلماً بعيد المنال !!
خدمت الدولة 40 سنة وتوا انحس بروحي شحات !!



