ثقافة

تعليق على هامش: مأدبة لبكاء مرّ للشاعر جمعة الموفق

 

 

تعليق على هامش :

مأدبة لبكاء مرّ للشاعر جمعة الموفق

* مفتاح العماري

(هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟) يتساءل «أنسي الحاج» في المقدمة البيان لمجموعته الشعرية الأولى (لن).

سؤال ما انفك يتكرَّر بصيغ شتى.. سؤال تقليدي وبديهي في آنٍ، ومع ذلك ما زال يحثنا على إعادته وإن بصيغ مختلفة لإيجاد توصيف أكثر دقة لهوية قصيدة النثر، ومحاولة الاقتراب من تعريف منصف يؤويها ويحيط بها، كذلك الكشف عن خصائصها؛ والتنقيب عن مرجعياتها فيما إذا كانت تولد من اللغة، من الصورة، من الموسيقى، من الغربة، من التمرد، من الذاكرة، أو من تأثير القراءة والتناص؛ وهل القصيدة نتاج البيت أم الشارع؟؛ وعن مدى صلة قرابتها بالشعر.

* قصيدة جمعة عبد الله الموفق، تختزل كل هذه الأسئلة.

مع ملاحظة أننا حين نقتفي المرجعيات المؤثرة في المادة الخام لهذا الصنف المتجدَّد من الكتابة؛ فإننا نسبر القصيدة ذاتها من داخلها، لا من الخارج؛ باعتبار القصيدة وحدة مستقلة بذاتها وكل ما يدخل في خامها سيشي بعملية هضم، وتدوير لها خصوصيتها.

سأتكلم هنا، لا بوصفي منظرًا؛ بل عبر سجيتي وحدها؛  محاولاً توصيف تلك الهزة العميقة التي أحدثتها القصيدة في وجداني. وكل ما أقوله لا يطمح أن يكون أكثر من ترجمة لما يمكن تسميته بتفعيل القراءة بوصفها حياة أخرى تجاور المقروء، وتنطلق تحديدًا من فضائه؛ لا لتوصيفه؛ بل لإعادة خلقه، تبعا لما تسهم به عملية القراءة من احتمالات التلقي والتأويل.

أشير : إلى أنني قرأتُ مقترحات هذه المجموعة الشعرية (قبل بضع سنوات)؛ وهي لما تزل مخطوطة معدة للنشر، خصّني بها الشاعر (مشكورًا).

في الأثناء كنتُ بدوري اتساءل، من جهة؛ عن مرجعية اللغة، كذلك مرجعية فضاء القصيدة كخلفية ثقافية اجتماعية؛ وقد أدركتُ بأنني إزاء كتابة مضادة للسائد، كتبها شاعر حقيقيّ، لتعبر عن تجربة أصيلة، حيث الكتابة مشروع حياة، تنطلق من انهمام وجوديّ، وقلق يراكم أسئلته، ويعيد تشكيل المتخيل، بواسطة اللغة وحدها، بوصفها سلاحه الوحيد في معركة الحياة. اللغة وقد تفطنت للخديعة اللفظية التي ما تزال تعلن عن نفسها لدى التجارب الممتثلة لرومانسية موهومة سوّقها مريدو الشعر الرائي الذين حوّلوا لغة القصيدة إلى جُمل سائبة، وفضفاضة، تذهب إلى ما وراء اللغة. وهكذا سبّب التخلي عن المحسوس، وازدراء المستعمل، في إفقار لغة الشعر كمنظومة متكاملة تجمع بين الإيماء واللفظ والصورة والمنطوق والمكتوب. التخلي عن هذه السيمياء تبعا لخبراتها وتطورها، نتج عنه من ثم إغفال دورات تراكمها الشعبي، في مسوى لغته الشابة: لغة الشارع. هذا المأزق يعد من أخطر المعوقات التي تعترض صيرورة التجاوز. وهو أيضا مكمن الخلل في تخلف عملية الكتابة الإبداعية بشتى أجناسها، لاسيما الشعر.

أما فيما يتعلق بالفضاء؛ فذلك يتطلب وقفة أكثر تمعنًا وتدقيقًا وتمهلا، وبصورة خاصة إذا ما أدرجنا هذه التجربة ضمن تيار شعري ينحاز للهامش؛ فحينها سوف نفتقد لتلك العلاقة الحية اجتماعيا باعتبار الحانة ومعاقرة الخمر هامشا له حيزه الثقافي الذي يشكل إطارا اجتماعيا، وبالمثل ينسحب الكلام على النساء وتكريس ثيمة «الأيروتيك كلازمة» مهيمنة من خلال توطين مفرداتها الخلاعية بشكل يشي أحيانا بالإفراط المتعمد.

وهنا نشير إلى أجواء المكان بوصفه بيئة اجتماعية، وعمارة وواقع يومي ضاج تختزل اللغة الشعرية حياتها وتحولها الى قصيدة نثر.. باعتبارها رافدًا ومعطى واقعيا يحتمل من ثم هذا الجموح المضاد، مثلما هو الشأن لـ(سانتياغو) في قصائد (نيكانور بارا)، و(لوس انجليس) حين تتوزع سيمياؤها في قصائد (بوكوفسكي).

لهذا سنبحث هنا عن مدينتنا، عن طرابلس أو بنغازي، وحتى درنة، ومصراتة، والزاوية وترهونة، وبني وليد، لكأننا نحاول ايجاد مسوغ لصدقية التجربة، بوصفها حياة معاشة تنطلق من واقع اجتماعي حيّ كمرجعية، لا تبرئتها من شبهة القراءة أو المشاهدة. كمحفزات للتناص مع تجارب الآخر.

لكن وبغض النظر عن خلو الحواضر الليبية من هذا الرصيف الذي يحتمل حانات ومراقص ومواخير وأماكن تضج بالعاطلين والمشردين فإننا سنتعاطف هنا مع المخيلة كواقع افتراضي يهبها الحرية – ربما المطلقة – في استحضار ما تشاء من مفتقدات لكن السؤال المخيب هو أن هكذا قصائد سيكون غير مرحب بها في بيئة تقف دائما ضد المغامرة والتجريب.

لعل الطيف الجديد من شعراء قصيدة النثر بمختلف أجيالهم ركزوا على مقاربة الحي والمستعمل من اللغة، وانتخبوا لغة اليومي، على حساب البلاغي. تبرز آلية الانحياز للغة الشارع كأول ملمح في قصائد هذه المجموعة الشعرية. فمن علي صدقي عبد القادر، إلى هناء قاباج، وعلي حورية؛ مرورا بفوزية شلابي، وسميرة البوزيدي، وسالم العوكلي – هنا ألمّح إلى الإشارات الأكثر رسوخا ومثابرة وإضافة وتأثيرا- في قدرتها على إزاحة القصيدة، ليس في التنصل من العروض والأشكال العمودية للشعر التقليدي، أو موقفها المضاد من التشوهات التي طالت قصيدة الثر،  وحسب،  بل عبر دورها المعرفي في المقاربة بين الشعر والحياة، كواقع معاصر، وتحرَّرها من سلطة الأبوة وهيمنة السلف.

علي صدقي عبدالقادر كان النموذج، للخروج عن سلطة الأب، وبالمثل، حفلت عشريتي الثمانينيات والتسعينيات بأصوات شعرية؛ شكلت  جسرًا لمفاهيم التجديد، دونما إثارة أيما ضجة أو ادعاء.

نتعامل مع المجموعة هنا بوصفها جنسا أدبيا ينتمي لقصيدة النثر، ولفض الاشتباك الدائر حول هذا المصطلح وانتسابه لسلالة الشعر العربي، نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى اعتبارها (أي قصيدة النثر) نوعا شعريا مستقلا، لا فرعا من شجرة.

لأنها تشكل في عمومها تحديا يضرب في أكثر من اتجاه، تحديا في رهانها المستميت على صنف من الكتابة أضحى نسيجه واهيا في قماشة الثقافي والمجتمعي ، وقد ضاق حيزه وانسحب زمنه وندر شغف محبيه، تحديا للمحرم وانتهاكا للتابو بكل قوانينه ومقدساته، تحديا للواقع عبر تعريته وفضحه ونكش مطاميره وكشف أسراره. قصيدة جمعة الموفق؛ تضرب في أكثر من اتجاه داخل مستوى تعبيري واحد، وبعبارة مقتصدة، تقشفت مفرداتها في استعمال أية مواد تجميل بلاغية، واكتفت بانزياحها الخشن، والتقاط المطروح في الطريق، تبعا لحاجة العابر.

قد لا يفي هذا التوصيف السريع للإحاطة بأشكال ومضامين نصوص المجموعة الشعرية (مأدبة لبكاء مرّ)، التي  يتعذر إنصافها كما ينبغي وبالمثل يظل من العبث الانشغال البتة باستحقاق تموقعها داخل مشهد شعري شبه معدوم، يتصف بالعشوائية وغياب الحراك، طالما يفتقر محليا إلى تجمّع أطيافه، وهشاشة فعاليةالمنابر والمحافل وحركة النشر والطباعة، ومظاهر الاحتفاء… الخ.

تستجيب اللغة هنا لمخيلة الشاعر، ولن يكون في وسع أكثر مفرداتها خشونة إلا أن تلبي مشيئة القصيدة، ولاسيما حين يتربص معجمها  بمفردات الشارع، حيث تتحقق المعادلة الصعبة:  ترويض القصيدة على ضرورة التسكع، كصنف من المعرفة لا يتحقق إلا بكسر صرامة اللغة نفسها، فضلا عن كسر إيقاع ارستقراطية ذاكرة الشعر، والتخلص من شبهة الغنائية، وأشياء عديدة عليها أن تتحول الى حطام؛ حتى لو كانت من سلالة المقدسات.

هذا هو الشعر: صادم ،وعنيف ، لا يسعه أن يمر بحياد طالما كل كلمة كفيلة بأن تلدغك؛ لتترك أثرًا لا يمحى، شعر اعترافي، سيروي، يومي يوثق البديهي والعابر؛ أحيانا ينهمر كمنولوج، تتعدد في أنساقه الضمائر والصيغ ٤قيدة الشارع؛ يكسب بجدارة قدر اللعنة؛ لعنة الشعر، ويحكم على نفسه سلفا، أن يظل مطرودا خارج الجنة. ليبدو كمن يسعى لتكريس جحيمه، في زمن يتعذر التصالح مع قبحه. لكن وعلى الرغم من افتتانه بالصورة كلقطة عابرة، إلا أن الفضيلة هنا في عفوية أصالة جملته الشعرية بوصفها هبة تسكع، وغزو يتغلغل بعيدا في معجم العامة، تاركا عبارته الطازجة، تنهال بضربات حارة، وجريئة إلى أقصى حد. قصيدة  النثر هنا تأتي كاستحقاق يستمد صدقه وطزاجته من أصالة التجربة، بوصفها وريثا شرعيا لثقافة الهامش. كما لو أن الشاعر قد عثر أخيرا على ضالته عبر هذه العلاقة، التي تصل إلى اكتشاف أطرها معرفيا، كتمهيد لعودة الشعر إلى الشارع.

من جهة أخرى يمكننا ملاحظة كيف تتكرس الكوميديا السوداء في تجربة جمعة الموفق بصهر أرواح أخرى داخل مرجلها، أرواح ضالة لعلها اقرب الى تلك الفصيلة التي تنحدر في نسبها العربي من سلالة الماغوط، وعلى الضفاف الأخرى  ستذكرنا  ببكوفسكي، وفي الآن نفسه ستحيلنا الى الشعر المضاد في امريكا اللاتينية وتحديدا تجربة شاعر الشيلي “نيكانور بارا “. ولعلها من خلال تداعياتها السيروية  ستوميء في شكلها الأعترافي الى بوكوكسفكي، ودوريان لوكس، وآخرين، فتظهر كما لو أنها تدربت وبتمرس في نفس المشغل الشعري لجيل غاضب، غير أن توقها لتحقيق ملمحها الخاص بها، فضلا عن وعيها بما تفعله، يجعلها تنطلق واثقة من تأسيسها لنفسها، وتأثيث مشروعها، بوصفه مقدمة لتوطين قصيدة نثر تنحاز للهامش، ليس في بعده الاجتماعي بل بما تمثله اللغة التي صاغت قصائد الديوان كمسوغ أكثر خصوصية. هنا تتجلى تحديدا أصالة صوت الشاعر، ومدى قدرة جملته الشعرية على إيواء عالمها بانسيابية داخل مفردات غاية في البساطة. لعله الشاعر الأبرز في هذا الطيف الذي ظهر خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة. ففي الوقت الذي يتنصل فيه العالم من الشعر، بحيث وسم التردد والارتباك والخجل معظم تجارب هذا الجيل، ليقتحم جمعه عبدالله الموفق، المشهد الخامل بقوة وليخلخل هذه الظاهرة، منصفا الشعر والشاعر.

عبر هذا الانحراف الذي يجعل القصيدة تتطابق قولا ومعنى يتصالح الخيال مع نفسه، حين يكتشف لغته الضائعة، ليكتب لحظته كما هي، دونما ادعاء. فقط تبدأ القصيدة من خلال اكتشافها للغتها، أي المقاربة بين الكتابة والكلام؛ وهذا عمل بقدر بساطته النظرية، إلا أنه يحقق معادلة صعبة المنال، حين يقفز على كلاسيكية اللغة ليكتب بالطريقة نفسها التي يفكر بها.

وهكذا تأتي قصائد (مأدبة لبكاء مرّ) لتعزَّز المزيد من الثقة؛ ليس في الرهان على قصيدة النثر وحسب؛ بل على فرادة الصوت الشعري في ليبيا، ومدى ما يملكه من مقومات حقيقية لانجاز كتابة شعرية على قدر كبير من الأصالة والتميز والاقتدار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى