ثقافة

إتقانُ السرد وعبقُ المكان

يونس الفنادي

رواية‭ ‬‭)‬ليالي‭ ‬نجمة‭(‬‭ ‬للكاتب‭ ‬المرحوم‭ ‬خليفة‭ ‬حسين‭ ‬مصطفى‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬جزئين‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬النشر‭ ‬والتوزيع‭ ‬والإعلان،‭ ‬واشتملت‭ ‬على‭ ‬ثمانين‭ ‬فصلاً‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬تسعمائة‭ ‬وخمسين‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬الحجم‭ ‬المتوسط‭.‬

اختار‭ ‬الكاتب‭ ‬خليفة‭ ‬حسين‭ ‬مصطفى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفضاء‭ ‬الزماني‭ ‬لرواية‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬هو‭ ‬فترة‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم‭ ‬الماضي،‭ ‬وهي‭ ‬فترة‭ ‬مليئة‭ ‬بالأحداث‭ ‬المهمة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬السويس‮»‬‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬عقب‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي،‭ ‬وتطورات‭ ‬سياسية‭ ‬عديدة‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبي‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬إعلان‭ ‬الاستقلال،‭ ‬بينما‭ ‬فضائها‭ ‬المكاني‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬أزقة‭ ‬ومعالم‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬سيدي‭ ‬عمران‮»‬‭ ‬سيء‭ ‬السمعة‭ ‬آنذاك‭ ‬بالمدينة‭ ‬القديمة‭ ‬بطرابلس‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬معظم‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭.‬

وتحكي‭ ‬الرواية‭ ‬تفاصيل‭ ‬وسيناريوهات‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬خفايا‭ ‬وأسرار‭ ‬وأحداث‭ ‬مسكوت‭ ‬عنها،‭ ‬يتمنى‭ ‬الإنسان‭ ‬تجاوزها‭ ‬أو‭ ‬طمسها‭ ‬أو‭ ‬تناسيها‭ ‬لأنها‭ ‬تمثل‭ ‬صفحة‭ ‬سوداء‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬احتفظت‭ ‬بحقها‭ ‬التاريخي‭ ‬التوثيقي،‭ ‬لأنها‭ ‬تتناول‭ ‬وتسرد‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬أوكار‭ ‬البغاء‭ ‬الرسمية‭ ‬وحانات‭ ‬الخمر‭ ‬وحياة‭ ‬المومسات‭ ‬اللاتي‭ ‬كانت‭ ‬“نجمة”‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬واحدة‭ ‬منهن‭ ‬ومثلت‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ ‬التي‭ ‬التفت‭ ‬حولها‭ ‬الشخصيات‭ ‬الاخرى،‭ ‬فنسجت‭ ‬فصولا‭ ‬متفاوتة‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬المواقف‭ ‬السياسية‭ ‬وصياغة‭ ‬الاحداث‭ ‬الاجتماعية‭ ‬فيها‭.‬

ف”نجمة”‭ ‬هي‭ ‬المرأة‭ ‬الفاتنة‭ ‬التي‭ ‬تقيم‭ ‬في‭ ‬“شارع‭ ‬سيدي‭ ‬عمران”‭ ‬وتمارس‭ ‬الرذيلة‭ ‬وبيع‭ ‬الهوى‭ ‬للسكارى‭ ‬وزبائن‭ ‬اللحم‭ ‬الرخيص،‭ ‬وهي‭ ‬كما‭ ‬ألمح‭ ‬الكاتب‭ ‬أحياناً،‭ ‬أثناء‭ ‬الحوارات‭ ‬العميقة‭ ‬مع‭ ‬صحوة‭ ‬النفس‭ ‬وعذابات‭ ‬صوت‭ ‬الأنا‭ ‬عبر‭ ‬المونولوج‭ ‬الداخلي،‭ ‬أنها‭ ‬امرأة‭ ‬تحس‭ ‬بالمرارة‭ ‬وعدم‭ ‬الرضى‭ ‬على‭ ‬وجودها‭ ‬وإقامتها‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الشارع‭.‬

ومن‭ ‬شخصيات‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬المرحوم‭ ‬خليفة‭ ‬حسين‭ ‬مصطفى،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬بطلتها‭ ‬‮«‬نجمة‮»‬‭ ‬نقابل‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬المعلول‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬صياد‭ ‬قوي‭ ‬البنية‭ … ‬‮«‬قبضي‮»‬‭ … ‬يهابه‭ ‬الكثيرون‭ ‬في‭ ‬الحي،‭ ‬وقد‭ ‬صوره‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى‭ ‬وطنية،‭ ‬مناهضاً‭ ‬لدسائس‭ ‬ومؤمرات‭ ‬اليهود‭ ‬ورافضاً‭ ‬التواجد‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬وناقماً‭ ‬على‭ ‬رموز‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬‮«‬الشاويش‭ ‬عبدالله‮»‬‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬حفظ‭ ‬النظام‭ ‬واستتباب‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬سيدي‭ ‬عمران‮»‬‭.‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬الرئيسية‭ ‬هناك‭ ‬شخصيات‭ ‬ثانوية‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬“ليالي‭ ‬نجمة”‭ ‬مثل‭ ‬“الغاوي”‭ ‬رجل‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬تزوج‭ ‬“حورية”‭ ‬ابنة‭ ‬المرأة‭ ‬العجوز‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬مغنية‭ ‬قديمة‭ ‬“زمزامة”،‭ ‬فنجده‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬عمامة‭ ‬الدين‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬قهواجي‭ ‬ثم‭ ‬قتل‭ ‬زوجته‭ ‬“حورية”‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشف‭ ‬خيانتها‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬“حسين”‭ ‬السفرجي‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬لديه‭ ‬بالمقهى‭. ‬وأيضاً‭ ‬هناك‭ ‬شخصية‭ ‬“عبدالسلام”‭ ‬تاجر‭ ‬الذهب،‭ ‬وابنته‭ ‬“زهرة”‭ ‬و”منصور”‭ ‬بائع‭ ‬السمك‭ ‬والفقي‭ ‬المشعوذ‭ ‬“مصباح”‭ ‬الذي‭ ‬يتزوج‭ ‬“زهرة”‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الرواية‭.‬

شخصيات‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬أيضاً‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬الجرايدي‮»‬‭ ‬الشاب‭ ‬المثقف،‭ ‬و«ضابط‭ ‬البوليس‭ ‬عبدالخالق‮»‬‭ ‬و«اليهودي‭ ‬ناحوم‮»‬‭ ‬صاحب‭ ‬الخمارة،‭ ‬و«فاطمة‮»‬‭ ‬و«صوفيا‮»‬‭ ‬و«مريومة‮»‬‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير‭..‬

كل‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬يحركها‭ ‬مؤلف‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬بكل‭ ‬براعة‭ ‬درامية‭ ‬ناظماً‭ ‬من‭ ‬حواراتها‭ ‬وتطورات‭ ‬حياتها‭ ‬ومعيشتها‭ ‬بين‭ ‬أركان‭ ‬الفضاء‭ ‬المكاني،‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ ‬“شارع‭ ‬سيدي‭ ‬عمران”‭ ‬خلال‭ ‬زمن‭ ‬السرد،‭ ‬موضوعاً‭ ‬زاخراً‭ ‬بحكايات‭ ‬متعددة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬إلا‭ ‬بموت‭ ‬“المعلول”‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬غامضة‭ ‬وخروج‭ ‬“نجمة”‭ ‬من‭ ‬الشارع‭ ‬ومغادرتها‭ ‬له‭ ‬بلا‭ ‬وجهة‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭ ‬الممتعة‭.‬

‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬تداخل‭ ‬فيها‭ ‬الواقعي‭ ‬مع‭ ‬التخيلي،‭ ‬أو‭ ‬الافتراضي‭ ‬فجاءت‭ ‬ثرية‭ ‬في‭ ‬شكلها‭ ‬ومضمونها‭ ‬ومتناسقة‭ ‬في‭ ‬تفاعلاتها‭ ‬ومنتمية‭ ‬إلى‭ ‬واقعها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ومكانها‭ ‬الجغرافي‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬يقول‭ ‬مؤلفها‭ ) .. ‬إنّ‭ ‬شخصيات‭ ‬الروائي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬شخصية‭ ‬متخيلة‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬جذور‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ .. ‬فشخصية‭ ‬‮«‬نجمة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬امرأة‭ ‬حقيقية‭ ‬وليست‭ ‬متخيلة‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬أتناولها‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬إذ‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إضافات‭ ‬وإثراء‭ ‬للشخصية‭ ‬حتى‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وكأنها‭ ‬شخصية‭ ‬متخيلة‭(.‬

وقد‭ ‬تناول‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والنقاد‭ ‬بالتحليل‭ ‬والقراءة‭ ‬المتعمقة‭ ‬والنقد‭ ‬الموضوعي،‭ ‬وأثنوا‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناسبات‭. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬الراحل‭ ‬الدكتور‭ ‬علي‭ ‬فهمي‭ ‬خشيم‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭ ‬بإن‭ :‬

‭)‬خليفة‭ ‬حسين‭ ‬مصطفى‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬روايةً‭ ‬جميلة،‭ ‬وأنّ‭ ‬البناء‭ ‬الدرامي‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية‭ ‬يعد‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أكمل‭ ‬البناءات‭ ‬الدرامية‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭(‬‭.‬

أما‭ ‬الكاتب‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬بلقاسم‭ ‬الهوني‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ )‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬تعتبر‭ ‬ذروة‭ ‬إبداعات‭ ‬خليفة‭ ‬حسين‭ ‬مصطفى‭ ‬الفنية؛‭ ‬فهي‭ ‬ذات‭ ‬أبعاد‭ ‬إنسانية‭ ‬واجتماعية‭ ‬تمثل‭ ‬فترة‭ ‬فاصلة‭ ‬وحاسمة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشعب‭ ‬الليبي‭ ‬تاريخياً‭ ‬وثقافياً،‭ ‬فهي‭ ‬رواية‭ ‬ذات‭ ‬أبعاد‭ ‬ورؤى‭ ‬متعددة‭ ‬الجوانب‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬أوصالها‭ ‬حرارة‭ ‬اللغة‭ ‬ودفئها‭ ‬الجميل‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬روعة‭ ‬الأسلوب‭ ‬وبساطته‭ ‬المتناهية‭(.‬

وتصف‭ ‬الكاتبة‭ ‬الأستاذة‭ ‬‮«‬نادرة‭ ‬عويتي‮»‬‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬بأنها‭ :‬

‭)‬‭…‬رواية‭ ‬اجتماعية‭ ‬توثيقية‭ ‬بجدارة،‭ ‬حفلت‭ ‬بالحركة‭ ‬البشرية،‭ ‬ووصفت‭ ‬المرحلة‭ ‬المفصلية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الوطني‭ ‬المحلي‭ ‬المتجسد‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الاستقلال‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬الإدارة‭ ‬البريطانية‭(.‬

ومن‭ ‬ناحيته‭ ‬فإن‭ ‬الأستاذ‭ ‬‮«‬فوزي‭ ‬الحداد‮»‬‭ ‬يؤكد‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ).. ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬نجمة‮»‬‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬نجمة‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬البطلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬فيها،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬الشخصيات‭ ‬كانت‭ ‬أبطالها‭(.‬

‭)‬ليالي‭ ‬نجمة‭(‬‭ ‬رواية‭ ‬تنتسب‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭. ‬ولدتْ‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أزقتها،‭ ‬وشوارعها،‭ ‬وعاشت‭ ‬فيها‭ ‬بروح‭ ‬شفافة‭ ‬بين‭ ‬حقيقة‭ ‬الواقع‭ ‬وخيال‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل‭ ‬خليفة‭ ‬حسين‭ ‬مصطفى‭ ‬فجاءت‭ ‬أصيلة‭ ‬تطرح‭ ‬حكاية‭ ‬الحارة‭ ‬الليبية‭ ‬والمجتمع‭ ‬الليبي‭ ‬الثري‭ ‬بالحكايات‭ ‬والروايات‭ ‬التي‭ ‬توثق‭ ‬لتاريخه‭ ‬وتفاعلات‭ ‬أحداثه‭ ‬المختلفة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى