
تمثل الوثائق الأجنبية المكتوبة باللغات غير العربية مصدرًا يتقدم في صدقيته على جميع ما عداه في تدقيق الوقائع، وليس لكل من تتوق نفسه للغوص في كل ما يتعلق بأخبار الأولين بُدٌّ من الرجوع إليها سواء أكان ما كُتِبَ على هيئة مذكرات تركها من عاصر الأحداث فعاش شريكا أم شاهدًا منحازًا كان أم معارضًا، حتى أن بعض الدارسين لا يعتدُّون بأي مؤلف لم تكن من بين مصادره هذا النَّوع من الوثائق، لدرجة أن بعض الجامعات قد أخذت على عاتقها اشتراط ما يُمكِّنَ طلابها في دراساتهم العليا من أي لغة أجنبية تستوجبها طبيعة الاختصاص دون أن تُحسب هذه الفترة الزمنية ضمن مسؤوليات الطالب، بل أن من السياسيين من لم يتحرّج في اشتراط الدراسة الجامعية باللغات الحية كما رأينا في تجربتنا الجامعية في الدراسات العليا بستينيات القرن الماضي حين أسنِدَت إدارة الجامعة إلى المثقف البارز عبد المولى دغمان فربط الموافقة على إكمال الدراسة العليا بواحدة من الجامعات التي رأى فيها الأهلية لتحقيق هذا الشرط، تلك التي أعدَّ بأسمائها قائمة وصل عددها مئتي جامعة من جامعات العالم، وذلك في معرض حرصه على جودة التأهيل، لولا أنه الحرص الذي لم يُقَدَّر كما يجب أن يكون التقدير، فاعتبره الذين لم يبلغوا مستوى وعيه، عند تدوين ذكرياتهم عن المرحلة، من بين النواقص المُشككة في الإخلاص للاتجاه القومي والذي مثّلَ عند بعض القادة مقياسا لهذه الصفة، الأمر الذي جعل ذلك المثقف ونظراءه في الوعي يدفعون الثمن غاليا في سبعينيات القرن الماضي، فكان مأواهم السجن المركزي بطرابلس عقب محاكمة خالية من كل ما هو إنساني، وتحقيقٌ ما يزال شاهدا على ما عاناه ذوو المبادئ من جرائم الطغاة الذين طالما اتخذوا من وضوح الالتزام الوطني دليل إدانة ومستند إثبات ومبرر عقوبة مثّلها ذات يوم وما يزال يمثلها ذلك الإقصاء المخجل وتُلغي نزاهتَها الإدانةُ المسبقة، مما يرتفع رواجه في سوق الأحكام الجاهزة وتنفيذ الجزاء قبل المساءلة وسماع الدفاع وبعد كل شيء الاعتذار، وقد توالت هذه الذكريات مجتمعة في خاطري وأنا بصدد ما سرده الاختصاصي التاريخي والباحث المثابر الأستاذ علي الهازل في محاضرته في الثاني والعشرين من نوڤمبر حول جهد المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية في تأمين الكثير من الوثائق المتعلقة بالتاريخ الليبي منذ أن تأسس المركز وبدأ نشاطه في سبعينيات القرن الماضي وكان هذا الباحث في مقدمة الذين عملوا به ومثلوه على أكثر من صعيد، كما جاء في المحاضرة وما أعقبها من حوار حول الوثيقة ودورها في إجلاء حقائق التاريخ والحاجة إلى المزيد منها كما تحدث عديد الحاضرين ولم أغفله في ما أدليت به في الخصوص، وتبقى الأعمال الدرامية والكتابات الإبداعية دوما خير ما يُعوَّلُ عليه في تقديم التاريخ إلى المتلقي بالقدر الذي يُنقِّيه من كل ما هو سلبي ومؤثر في نمو الشخصية كما تدعو إليها أساليب التربية السليمة، وأُنهي بالقول لكل من أسهم في إثراء تاريخنا بشيء من الإيجابية من خلال هذه الوثائق بأسمى آيات التقدير والعرفان.


