رأي

إضاءة صغيرة حول الوثاق

أمين مازن

تمثل‭ ‬الوثائق‭ ‬الأجنبية‭ ‬المكتوبة‭ ‬باللغات‭ ‬غير‭ ‬العربية‭ ‬مصدرًا‭ ‬يتقدم‭ ‬في‭ ‬صدقيته‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬عداه‭ ‬في‭ ‬تدقيق‭ ‬الوقائع،‭ ‬وليس‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬تتوق‭ ‬نفسه‭ ‬للغوص‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بأخبار‭ ‬الأولين‭ ‬بُدٌّ‭ ‬من‭ ‬الرجوع‭ ‬إليها‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬ما‭ ‬كُتِبَ‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬مذكرات‭ ‬تركها‭ ‬من‭ ‬عاصر‭ ‬الأحداث‭ ‬فعاش‭ ‬شريكا‭ ‬أم‭ ‬شاهدًا‭ ‬منحازًا‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬معارضًا،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الدارسين‭ ‬لا‭ ‬يعتدُّون‭ ‬بأي‭ ‬مؤلف‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مصادره‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الوثائق،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الجامعات‭ ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬اشتراط‭ ‬ما‭ ‬يُمكِّنَ‭ ‬طلابها‭ ‬في‭ ‬دراساتهم‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬أجنبية‭ ‬تستوجبها‭ ‬طبيعة‭ ‬الاختصاص‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تُحسب‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬ضمن‭ ‬مسؤوليات‭ ‬الطالب،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬السياسيين‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يتحرّج‭ ‬في‭ ‬اشتراط‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية‭ ‬باللغات‭ ‬الحية‭ ‬كما‭ ‬رأينا‭ ‬في‭ ‬تجربتنا‭ ‬الجامعية‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬بستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬حين‭ ‬أسنِدَت‭ ‬إدارة‭ ‬الجامعة‭ ‬إلى‭ ‬المثقف‭ ‬البارز‭ ‬عبد‭ ‬المولى‭ ‬دغمان‭ ‬فربط‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬إكمال‭ ‬الدراسة‭ ‬العليا‭ ‬بواحدة‭ ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬التي‭ ‬رأى‭ ‬فيها‭ ‬الأهلية‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الشرط،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أعدَّ‭ ‬بأسمائها‭ ‬قائمة‭ ‬وصل‭ ‬عددها‭ ‬مئتي‭ ‬جامعة‭ ‬من‭ ‬جامعات‭ ‬العالم،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬حرصه‭ ‬على‭ ‬جودة‭ ‬التأهيل،‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬الحرص‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُقَدَّر‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التقدير،‭ ‬فاعتبره‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يبلغوا‭ ‬مستوى‭ ‬وعيه،‭ ‬عند‭ ‬تدوين‭ ‬ذكرياتهم‭ ‬عن‭ ‬المرحلة،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬النواقص‭ ‬المُشككة‭ ‬في‭ ‬الإخلاص‭ ‬للاتجاه‭ ‬القومي‭ ‬والذي‭ ‬مثّلَ‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬القادة‭ ‬مقياسا‭ ‬لهذه‭ ‬الصفة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬ذلك‭ ‬المثقف‭ ‬ونظراءه‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬يدفعون‭ ‬الثمن‭ ‬غاليا‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فكان‭ ‬مأواهم‭ ‬السجن‭ ‬المركزي‭ ‬بطرابلس‭ ‬عقب‭ ‬محاكمة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إنساني،‭ ‬وتحقيقٌ‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عاناه‭ ‬ذوو‭ ‬المبادئ‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬الطغاة‭ ‬الذين‭ ‬طالما‭ ‬اتخذوا‭ ‬من‭ ‬وضوح‭ ‬الالتزام‭ ‬الوطني‭ ‬دليل‭ ‬إدانة‭ ‬ومستند‭ ‬إثبات‭ ‬ومبرر‭ ‬عقوبة‭ ‬مثّلها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬يمثلها‭ ‬ذلك‭ ‬الإقصاء‭ ‬المخجل‭ ‬وتُلغي‭ ‬نزاهتَها‭ ‬الإدانةُ‭ ‬المسبقة،‭ ‬مما‭ ‬يرتفع‭ ‬رواجه‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الأحكام‭ ‬الجاهزة‭ ‬وتنفيذ‭ ‬الجزاء‭ ‬قبل‭ ‬المساءلة‭ ‬وسماع‭ ‬الدفاع‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬الاعتذار،‭ ‬وقد‭ ‬توالت‭ ‬هذه‭ ‬الذكريات‭ ‬مجتمعة‭ ‬في‭ ‬خاطري‭ ‬وأنا‭ ‬بصدد‭ ‬ما‭ ‬سرده‭ ‬الاختصاصي‭ ‬التاريخي‭  ‬والباحث‭ ‬المثابر‭ ‬الأستاذ‭ ‬علي‭ ‬الهازل‭ ‬في‭ ‬محاضرته‭ ‬في‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬نوڤمبر‭ ‬حول‭ ‬جهد‭ ‬المركز‭ ‬الليبي‭ ‬للمحفوظات‭ ‬والدراسات‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الليبي‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تأسس‭ ‬المركز‭ ‬وبدأ‭ ‬نشاطه‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الذين‭ ‬عملوا‭ ‬به‭ ‬ومثلوه‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صعيد،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬المحاضرة‭ ‬وما‭ ‬أعقبها‭ ‬من‭ ‬حوار‭ ‬حول‭ ‬الوثيقة‭ ‬ودورها‭ ‬في‭ ‬إجلاء‭ ‬حقائق‭ ‬التاريخ‭ ‬والحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬منها‭ ‬كما‭ ‬تحدث‭ ‬عديد‭ ‬الحاضرين‭ ‬ولم‭ ‬أغفله‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أدليت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الخصوص،‭ ‬وتبقى‭ ‬الأعمال‭ ‬الدرامية‭ ‬والكتابات‭ ‬الإبداعية‭ ‬دوما‭ ‬خير‭ ‬ما‭ ‬يُعوَّلُ‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬المتلقي‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬يُنقِّيه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سلبي‭ ‬ومؤثر‭ ‬في‭ ‬نمو‭ ‬الشخصية‭ ‬كما‭ ‬تدعو‭ ‬إليها‭ ‬أساليب‭ ‬التربية‭ ‬السليمة،‭ ‬وأُنهي‭ ‬بالقول‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬تاريخنا‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الإيجابية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الوثائق‭ ‬بأسمى‭ ‬آيات‭ ‬التقدير‭ ‬والعرفان‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى