بعضُ بوح بالحروف لرحيلها
مضتْ أكثر من أربع وعشرين ساعة على رحيلكِ، ورغم التوقع .. بل و وصول الأمر لدرجة الدعاء لله تعالى بأن يريحك من معاناتك ولو على حساب مشاعرنا، لم يُثبت العقل عندي فعاليته في إحداث التماسك بعد تلقي خبر رحيلك، و لم أجد إلا المشاعر تنتفض عندي .. وسيطرت الأحزان، لتجعل الوجدان يرتجف دقائق بعد فيضان روحك للسماء، فالحدث كان صاعقًا رغم كل التفاصيل المعروفة …..
الحزنُ على مغادرتك هذه الحياة الدنيا كان عميقًا درجة أنه فلق صخرة الصلابة، والكبرياء عندي، فتدفقتْ الدموعُ منهمرة، لتتفجر كاشفة لكومٍ من براكين أحزان مكبوتة و متراكمة أخرى فجرها حزني عليك، إلا أن الصدر بعدها، كأنه قد تنفس الصعداء قليلاً … فكنتُ كمن يحمل ثقلاً ناءت به النفس، في حين النفس ذاته تعتز بآثامها فتنكره .. لكن .. و لأن لي أنفس عدة .. تبقى … صدمة رحيلك لم تحتملها كل أنواع الأنفس المتربصة في داخلي، حتى تلك التي تبدو على عجرفة…
مع لجج الحزن هذه، عَلِمَ الله عز وجل بدواخلي وما أُحدِّثُ به نفسي، وهو الذي يعلمُ السِّر وأخفى، وحقَّق لي رغبتي الأخيرة معك، فلحقت بكِ جسدًا، وغاص بعضٌ من ثقله على كتفي، في الخطى نحو مثواكِ الأخير على هذه الأرض و في هذه الحياة التي نعيشها … شددت رداءك لستر جثمانك مع نفرٍ من الناس، ثم أهلتُ على القبر التراب، ومع كل حفنة ألقي بها، تتفجر من المآقي تلك القطرات المتحجرة، فتتدفق، وأبتعد لأواريها عن العيون، رغم أن بعضهم التقط المشهد، و لم تستطع عيونهم أن تخبئ السؤال … من هذا الذي يلفه الحزن برداء صلب ..؟؟؟
بالعودة الى خليطي الممزوج بين شيء مما يصفه البعض بالصعوبة حد التعجرف، والتعقل بإقرار حقائق ما عُلِّمنا في هذه الحياة، فإنني أستدعي لحظة عنفوان، لأمارس عبرها التمرد الذي فيه من المشروعية والمنطقية ما يمكن البوح به …
حتماً … لا أقول وداعاً، إذ أننا سنلتقي ، لا أعلم بعد كم من الزمن ، خاصة إذا أدركنا بأن الزمن أمره متذبذب ، غير محدد بين ما نحسبه ، و ما يحسبه الله … لكننا سنجتمع ذات زمن ، و المؤكد هنا ، عند قيامنا من الأجداث منسلين ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ …. و كل ما نرجوه من ربٍ كريم ، أن يُميتنا و يُحيينا على مرضاة منه ، لننعم بما وعد ، ووعده الحق …
كذلك و بشكل فيه كثير من ” الصلف ” – غير المتوقع – سأعلن السعادة ، حتى برحيلك ، نكاية في عواصف الحزن التي تود اقتلاع ما في الفؤاد، و أعترف بأفضال الله و أعلن بأنني أشكره على أنه خلقك كما أنتِ، و وهبك ما وهبك و أنت كما أنتِ، إنسانة مليئة بالطهر، و الوفاء و الإيثار ، متلحفة بالصبر والإيمان، متسلحة بالصمود و العنفوان، تاركة بكل ما فيكِ ، وماكنتِ عليه ، جبالاً من مآثر، و بساتين من حبٍ ، و أنهاراً من عطاء ، جميعها لا تندثر لمجرد غيابك جسداً ، فقد سكنتِ جوارح المستمعين و الزملاء … عطاءات ، لعلها ما زالت عبر الأثير سابحة في الفضاء، و لا أستغرب سباحتك معها ، مرافقة لتراقص روحك الزكية …
سأعلن السعادة لكوني عرفتُك ، و رافقتُك ، و صادقتُك ، و زاملتُك ، و انضممتِ لعائلتي كما انضممتُ لعائلتك … ومن العمر المشترك سأغرف الأزمان الواهبة للسعادة ، مستدعياً كل تفاصيلها ، أجدد حضورها ، و أعيد الامتلاء بها ، لأنتشي حد القهقهه … و أستحضر حتى قهقهاتكِ معي …
في نهاية بعض من البوح ، لا يفوتني أن أشكر الله ، كونه أنعم بشقيقة لك ، يمكن أن نغترف منها ما يُسعد كما كنتِ تفعلين ، لكونها متطابقة في الصفات و الشخصية ، مليئة بمواصفات ذاتك النقية … و قريبة منك حد التطابق …
هنا …. ولكِ بالذات …
لن اسأل كريماً كرما منه فهو الأكرم ..
لن أطلب الرحمة و المغفرة من الأرحم و الأكثر غفراناً …
لن اسأل الودود أن يحسن مثواك ، و وده لا يضاهى ..
فظني في الله وبما سيقابلك به ، يفوق ” حتى“ و ” حدَّ “ التصور ..
و مرة أخرى ..إلى اللقاء ..و سأحاول أن أحيل الحزن عليك إلى فرح بنعمة مشاركتك جزءاً من الحياة …