رأي

احتراق البيت الليبي !!

محمد الرحومي

كنت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬أشغل‭ ‬مسؤولا‭ ‬اعلاميا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬البلديات‭ .. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بطبيعة‭ ‬حال‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬الهشة‭ ‬مرحلة‭ ‬صعبة‭ ‬بكل‭ ‬ماتعنيه‭ ‬الكلمة‭ . . ‬لهذا‭ ‬تعددت‭ ‬الأزمات‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬وأصبحت‭ ‬المهام‭ ‬صعبة‭ ‬والأداء‭  ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تظافر‭ ‬جميع‭ ‬الحواس‭ ‬الذهنية‭ ‬والحسية‭ .. ‬لذا‭ ‬استوجب‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حاضرا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأوقات‭ ‬واللحظات‭ ‬لرصد‭ ‬الأداء‭ ‬وايضا‭ ‬لتوثيق‭ ‬المرحلة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ .. ‬

حالتي‭ ‬التي‭ ‬أود‭ ‬سردها‭ ‬داهمتني‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬الشتوية‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬استدعائي‭ ‬لتوثيق‭ ‬مشهد‭ ‬انساني‭ ‬مرعب‭ .. ‬رغم‭ ‬امتعاضنا‭ ‬ورفضنا‭ ‬له‭..‬

‭ ‬لحظات‭ ‬وكنت‭ ‬صحبة‭ ‬المصور‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬وكأنني‭ ‬أمام‭ ‬اكشن‭ ‬تم‭ ‬اعداده‭ ‬بعناية‭..  ‬اجساد‭ ‬ملقاة‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬البحر‭ ‬البريء‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬البشر‭ ‬والغاضبة‭ ‬امواجه‭ ‬من‭ ‬افعالهم‭ .. ‬وفي‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬ثمة‭ ‬اجساد‭ ‬اخرى‭ ‬حية‭ ‬الروح‭ ‬الا‭ ‬انها‭ ‬ميتة‭ ‬تماما‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬‭. ‬شباب‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬العمر‭ ‬يرتدون‭ ‬ثياب‭ ‬نساء‭ ‬ونساء‭ ‬يلتحفن‭ ‬ثياب‭ ‬رجال‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬ازرار‭ .. ‬وجوه‭ ‬شاحبة‭ ‬حد‭ ‬الذهول‭ ‬وكأنها‭ ‬قد‭ ‬خرجت‭ ‬قبل‭ ‬لحظات‭ ‬من‭ ‬رياح‭ ‬صرصر‭ ‬عاتية‭ .. ‬

جلستي‭ ‬اللا‭ ‬ارادية‭ ‬كانت‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬إحدى‭ ‬الكتائب‭ ‬الأمنية‭ ‬ممن‭ ‬اعتادو‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ .. ‬حاولت‭ ‬الاستماع‭ ‬الى‭ ‬استجواب‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المرهقين‭ ‬من‭ ‬اصحاب‭ ‬البشرة‭ ‬السمراء‭  ‬المنساقين‭ ‬على‭ ‬شاطيء‭ ‬البحر‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬سلاسل‭ .. ‬قائد‭ ‬فرقة‭ ‬النجاة‭ ‬سأل‭ ‬الأول‭ .. ‬من‭ ‬معك‭ ‬فأجابه‭ ‬زوجتى‭ ‬وابني‭ 

‭ ‬واين‭ ‬هم‭ .. ‬أجابه‭ ‬دون‭ ‬مهل‭ ‬وبروح‭ ‬منزوعة‭ ‬من‭ ‬اي‭ ‬ذرة‭ ‬من‭  ‬المشاعر‭ ..‬في‭ ‬البحر‭ .‬

انصرف‭ ‬وجاء‭ ‬الآخر‭ ‬وسأله‭ ‬من‭ ‬معك‭ ‬فأجابه‭ ‬بنفس‭ ‬الروح‭ ‬المنزوعة‭ ‬من‭ ‬الروح‭ .. ‬أمي‭ ‬وأخى‭ ‬وقد‭ ‬تركتهم‭ ‬في‭ ‬اعماق‭ ‬البحر‭ .‬

وهكذا‭ ‬تتوالي‭ ‬الاجابات‭ ‬وكأنني‭ ‬في‭ ‬حلم‭ ‬ليلة‭ ‬شتوية‭ ‬اعيش‭ ‬واقع‭ ‬حياة‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬او‭ ‬انني‭ ‬مازلت‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬سمائها‭ ‬الرعدية‭ ‬المنهمرة‭ ‬وما‭ ‬صاحبها‭ ‬من‭ ‬نوم‭ ‬ثقيل‭ ‬الدفء‭ ‬والهواجس‭ ‬أيضا‭.‬

لقد‭ ‬شاهدت‭ ‬بشرا‭ ‬يتعايشون‭ ‬مع‭ ‬أعظم‭ ‬مآسى‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬البحار‭ ‬يفقدون‭ ‬آباءهم‭ ‬وأمهاتهم‭ ‬وابناءهم‭ ‬في‭ ‬لمح‭ ‬البصر‭ .. ‬تقبض‭ ‬أرواح‭ ‬من‭ ‬أراد‭  ‬الله‭ ‬لها‭ ‬ذلك‭ ‬وتقذف‭ ‬أمواج‭ ‬البحر‭ ‬من‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬جولة‭ ‬وصولة‭ ‬أخرى‭ .‬

في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬سنوات‭ ‬العمر‭ ‬التي‭ ‬مضت‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬وذلك‭ ‬الصباح‭ ‬ازاحت‭ ‬حدود‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭ ‬وأصبح‭ ‬مجرد‭ ‬يوم‭ ‬مآساوي‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬اتذكر‭  ‬بكل‭ ‬مرارة‭ ‬وآلم‭ ‬وبهواجس‭ ‬تتلاطم‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬القلب‭ ‬والعقل‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أحد‭ ‬الشباب‭ ‬الليبي‭ ‬لأمه‭ ‬وأبيه،‭ ‬وهم‭ ‬يتبادلون‭ ‬أحاديث‭ ‬مسلية‭ ‬بأنه‭ ‬قد‭ ‬عزم‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يخوض‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نعتقد‭ ‬بأنها‭ ‬وافدة‭ ‬الا‭ ‬انها‭ ‬اصبحت‭ ‬حلم‭ ‬آغلب‭ ‬شباب‭ ‬ليبيا‭ .. ‬نعم‭ ‬الحرق‭ ‬اصبح‭ ‬ضمن‭ ‬روافد‭ ‬وطموحات‭ ‬الشباب‭ ‬الليبي‭ .. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يحتاج‭ ‬فعلا‭ ‬لمن‭ ‬يقنعه‭ ‬بأن‭ ‬الوطن‭ ‬قادم‭ ‬وأن‭ ‬سياسييها‭ ‬ونخبها‭ ‬سيضمدون‭ ‬جراحها‭ .. ‬وهي‭ ‬نتيجة‭ ‬منطقية‭ ‬عندما‭ ‬تظل‭ ‬رؤوس‭ ‬النعام‭ ‬مغروسة‭ ‬في‭ ‬الرمل‭ ‬بينما‭ ‬رؤوس‭ ‬الجهال‭ ‬ممن‭ ‬اعتبرناهم‭ ‬نخبا‭ ‬وولاة‭ ‬أمر‭ ‬تعانق‭ ‬السماء‭ ‬المغيمة‭ ‬بسواد‭ ‬صنائعهم‭ .. ‬لقد‭ ‬جاء‭ ‬الدور‭ ‬على‭ ‬أجساد‭ ‬شباب‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬البائس‭ ‬عندما‭  ‬اكتشفنا‭ ‬ان‭ ‬هوية‭ ‬من‭ ‬حرقوا‭ ‬ليلة‭ ‬البارحة‭ ‬هم‭ ‬شباب‭ ‬وشابات‭ ‬ليبيين‭ .. ‬ومازالت‭ ‬الصفوف‭ ‬الأخرى‭ ‬تنتظر‭ ‬دورها‭ .. ‬نعم‭ ‬لقد‭ ‬جاء‭ ‬دور‭ ‬قلب‭ ‬الام‭ ‬والاب‭ ‬الليبي‭ ‬كي‭ ‬يحترق‭ ‬بحرق‭ ‬ابنائهم

كونوا‭ ‬بخير‭ ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى