لايخلو بيت في ليبيا من مبخرة وعلبة للبخور، فهو طيبُ المنازل وعطرها الآخاذ .. ولاتمر مناسبة إجتماعية أو دينية بدون حضوره الساحر .. هو عطرالعرس وجهاز العروس وعلى راس الاولويات بــ (قفتها ) .. هو حصن الطفل الجديد (المزيود ) في كل عائلة وحارسه فتدهن جدته صرته وجسده بــ (الحلتيت ) وتخمس عليه خمسا بـــ (الوشق ) والملح خوفا من (النفس والعين ) . البخور هو وداعنا للحاج (قاصد مكة والبيت المعمور ) وهو ما نستقبله به في عوده المبرور، وهو ايضا ما اقتناه من مكة المباركة ليهديه الينا .. ..البخور هو الموسم بشهر رجب وموسم شعبان وهو المولد والزفة ونوبة المالوف ، وهو ضيف الجمعة وليال رمضان ، وهو ايضا كل ايام العيد ..باختزال هو ضيف الشرف العبق بطيب رائحته والذي يجد مكانا له بنفوس الليبيين طوال ايام العام …والبخور متأصل وقديم جدا في ليبيا ، الا أنه ليس سلعة محلية ، لكن ولكون المدن الليبية منذ بدء التاريخ اشتهرت كممر للقوافل والتي منها من بدات رحلتها من اسيا متجهة الى اوربا استكمالا للرحلات التي سلكت طريق البخور فيبدو أن الاهالي ومنذ القديم كانوا حريصيين على مقايضة هذه القوافل والتي اناخت ابلها بمدنهم بسلعهم المحلية مقابل تلك الروائح الزكية المثمثلة في البخور و التي جلبته هذه القوافل من اقاصي الارض هناك من الهند وبلاد جاوا البعيدة وبلاد الصين ..وبائع البخور في ليبيا، وإن لم تشتر منه، فتأكد بأنه سيلحق بك عبق من شذا بضاعته المتراصة في دكانه الصغير .. وفي ليبيا يسميه الناس “العَطّار”، فيما يسمى السوق الذي يجمع دكاكين وعلب وحقائب البخور المتراصة بسوق “العَطّرية”… وهو بطرابلس زقاق طويل بالمدينة القديمة يمتد غربا من خلف سوق الحوت وسور مدرسة (احمد قنابة ) لينتهي شرقا عند المدخل الجانبي لسوق المشير من ناحية باب الحرية …..
أما البخور نفسه فله أسراره وعوالمه الخاصة، والتي لا تبوح بكل أسرارها.. وفي ليبيا له “ألقه الخاص”، وأنواعه “العصية” على الإحاطة، فلكل نوع لونه، ورائحته وموطن نشأته وسعره، وله مهامه التي تبدأ من معطر للمنازل وغرفها الى تطييب الثياب عند النساء، إلى (طرد العين) وحصن ضد (حسد الحسود) وفقا لمعتقدات قديمة.
ولا تختلف أنواع البخور التي يستعملها الليبيين ، عن تلك التي يستعملها جيرانهم على كامل الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط ، إذ أن الاختلاف فقط في التسميات، والقليل من الاستعمالات، ويشتمل على عدة أنواع، ولكل نوع رائحته الخاصة، وله غرض معين ومن اشهر انواعه هذه الانواع .
“الجَاوي” و”الوشق” من أجود انواع البخور ، فالأول نوعين أصلي، وغير أصلي ..والأصفر هو الأقل جودة لأنه غير أصلي، إذ أن الأصلي له ثلاثة ألوان، أحمر وأسود وأبيض، وسمي بالجاوي لأنه يورّد إلينا من بلاد (جاوا ..اندونيسيا ) البعيدة والواقعة في آسيا وتحديدا من جزيرة و سومطرة وايضا من جزيرة سيام بالمالاديف ، ورائحته أخاذة، ومع أم شكله صخري الا أنه يُستخرج من جذوع اشجار لها ارتفاع شاهق يفوق طولها احيانا الثلاثين متراً، حيث يتمّ خدش هذه الجدوع ليخرج منه سائلاً صمغياً يصبح على شكل كتل متجمدة فور خروجه للهواء الطلق، و استعمالاته متعددة، سواء في البيت، أو في المسجد…وهو ضيف شرف لايغيب عن كل المناسيات الاجتماعية والدينية … أما في يوم الجمعة فهو عطر كل بيت .
أما (الوشّق) فيمتاز برائحة عظيمة، والأقبال عليه في طراد مستمر ، ويأتي من إيران، و الأبيض منه يعد الأكثر جودة، ثم يليه الأحمر، ويسمي “شكارتُو”، وهو متوسط الجودة، ثم تأتي الدرجة الثالثة وهي ذات لون متسخ، ويعتبر الأقل جودة وقيمة ، وكل أشكاله حجرية.
وللوشق عدة استعمالات من غير استعماله كعطر او ملطف للجو ، فالأمر هنا يحيلنا إلى الشرق القديم المهووس بالأسطورة وقصص الجان، فالوشّق يستعمل لـ “ضيق الخاطر” ، إذ وفقا لمعتقدات قديمة تساعد رائحته القوية على “طرد الكآبة”، كذلك تستعمله الأمهات لاعتقادهن أنه يملك المقدرة على حراسة أطفالهن وحمايتهم من عين الحسد ، كذلك استعمل قديما لمداواة “الدابة المريضة”.ومن أنواع البخور المستخدمة في ليبيا، يأتي “العرضّاوي”، وهو مثل “عروق النجم” المتيبسة، وهو عطر نسائي بامتياز اذ كانت النساء يستعملنه لتعطير ثيابهن اضافة لتعطير بيوتهن ، رائحته جيدة، وعادة ما يخلط مع “القمّاري والمستّكة”، وعطر “الرازَزيت”، والأخير عطر سائل يأتي في زجاجات صغيرة، ويكاد لا يخلو منه بيت في ليبيا، وتحتفظ أغلب الأسر بليبيا وطرابلس خاصة بخلطة “العرضّاوي الخاصة بها .
ومن البخور أيضا “القّماريّ”، و تعتبر الهند موطنه الأصلي، وهو أسود اللون، وتطلى به أعواد الخشب، ويعلق على شبابيك المنازل والمساجد، وهو يحيلنا دائما إلى مواسم الحج، ، فعند عودة الحجاج من حجهم المبرور، يكونوا محمَّلين بالهدايا، فنجد أن حقائبهم لا تخلو منه، فهو الهدية التي يفضلها الجميع ، كما أن له استعمالات علاجية، خاصة لمرضى السكر، فمنهم من يشربه، بعد أن يتم نقعه بالماء.
وفي عالم البخور يبرز إسم “الفاسُّوخ” وهو نوعان ، الأول يسمى (الوشقّي)وهو معقول الرائحة لونه أصفر فيه بقع سوداء، والنوع الثاني منه أسود بالكامل ومطلي بزيت لمَّاع ويجُّلب من المغرب، وهو أيضا له استعمالات متعددة منها العلاجية ومنها الموغل في الخيال، فبحسب معتقدات قديمة يقال انه يستعمل لابطال السحر كذلك فإن استعمال (الفاسوخ ) للاطفال مع بعض التمتمات من الجدات، سوف يجعلهم يكفون عن البكاء، علما أن هذا الأمر لازال ينجح مع كثير من السيدات، وربما هذا من غريب البخور او ربما بعض مصادفات .
ومن غير ما ذكرنا تستعمل الليبييات ..الحلتيت هو رفيق الرضّع الدائم ، واللبان ..والمستكة ..والسواك ..وغير ما ذكرنا يوجد الكثير من انواع البخور وهي الاخرى يتراوح استعمالها ما بين العطرية والعلاجية أو الاستعمالات الاخرى والتي لايوجد لها ما يعللها فهي اصلا غير قابلة للتفسير لكنها واقع مسلم به لا لشيء الا لكونها تغوص بعيدا في العرف وفي التاريخ.
(