إذا كان الإنصاف يفرض تثمين التذكير بالخطاب التاريخي الذي ألقاه المثقف الوطني المرحوم عبد الحميد البكوش من موقعه كرئيس لوزراء ليبيا في التاسع من أغسطس 1968، فإن هذا الإنصاف ذاته وبعد ما يقرب من ستين سنة يوجب التنبيه إلى أن الخطاب كان قراءة واعية للواقع ودعوة صريحة إلى المجايلين كي يستشعروا ما كان يتهدد الوطن من المخاطر التي لم يكن خارجها شيخوخة الملك وارتيابه في أي صوت مختلف عن الضجيج الإعلامي القائم على التسبيح والحمد لمحقق الاستقلال وحامي الحمى الذي كان كان شبيها بعرش سليمان، أدرك الرجل حقيقته وحاول أن ينبه غيره لولا أن الجالس على العرش نفسه كان مستسلما لهواجسه، فبادر بإزاحة البكوش بعد ذلك الخطاب، منيطا الأمر برجل في غاية الطيبة، وحتى الإدارة ولكنه دون المرحلة، لينتهي لاحقا كل شيء بسهولة، وكما رويت عن البكوش شخصيا عن أن الكيان لن يصمد أمام أي هزة، لقد قال البكوش ما قال يومئذ بعد أن حاول تأسيس تنظيم سياسي برئاسة من لا يتفق معه في الفكر، وسعى إلى إعادة من سبقه إلى الرئاسة من مدخل الشيوخ أو حتى المقابلة الملكية، فيما كانت الحاشية لا تسأم تعطيل كل شيء، فأعيقت تعيينات الخارجية واستبعد من الشيوخ من استبعد، وظل البعض محرومين من جنسيتهم على الرغم من دورهم البارز منذ مؤتمر غريان في عشرينيات القرن الماضي، لقد تسلح البكوش بنظرة تفرق بين العلاقة الشخصية والقدرات والترفع عن الخلط بين الاختلاف وارتكاب نقيصة تغريم الخصوم، التي كثيرا ما ينحدر إليها بعض الذين دون مستوى المسئولية من الذين طالما ازدادت أعدادهم في المناصب و تساووا مع غيرهم في الصفات ولكنهم لم يتركوا شيئا يبقى في سجلات الوطن، لقد أجاد عبد الحميد في تمثله للواقع ودفع الثمن غاليا عندما دخل السجن بعد خطابه هذا في ما لا يزيد عن سنة،وبقى إلى أن لحقنا به واستطاع أن يخاطبنا مواسيا ومتأسيا شعرا اختتمه بقوله:
إن يكن ما كان لا تنسوا بأني واحد من عشرات
وقيودي سوف أفنيها بقرطاسي وحبري ودواتي.
وها نحن نستمع إلى مقتطفات من خطابه واثقين أن يأتي اليوم الذي يتحول فيه ذلك الخطاب إلى برنامج عمل وسلوك، وليرحم الله عبد الحميد أحد الذين دفعوا ثمن المعرفة ومضى على درب الوطن الذي حمله معه غريبا رافضا الرحمة المشوبة بالشماتة.