عبر الأزقة الضيقة’ حيث كانت درنة القديمة والبيوت القديمة بأبوابها الخشبية تصل إلى «سوق الظلام»، وفي منتصف السوق هناك زقاق صغير تدخل منه لتجد نفسك في وسط ساحة صغيرة، وكل من تجوَّل في وسط المدينة القديمة بدرنـة الزاهرة مر ّعلى هذه الساحة التي تعرف ..
بـ)البياصة الحمراء(
Pi azza Al Hamraa، حيث الراحة والسكون، في هذا المكان، سكون روحاني لم يتأثر بكل ما يجري هنا وهناك، تنسيك الحزن، وتُسرِّب لكَ اطمئناناً دافئاً، يذكِّرك بعبق درنة القديم، برائحتها الحاضرة في كل شيء، وهو من الأماكن الجميلة والتراثية في درنة الزاهرة، في هذا المكان كانت توجد فاسقية أندلسية، عند سـوق الخرازة )سـوق صناعة الأحذية المحلية(، و«الفاسقية» في التعريف اللغوي هي :
حوض من الرخام في وسطه نافورة ماء، ففي صمتك ترتسم مساحات الفرح الحقيقي وتشدك من الوهلة الأولى هذه الفاسقية الأندلسية المرصعة بفسيفسـاء البـلاط الأرجواني التي تنبجـس منها المياه الفضية المتطايرة فتتشابك ألوانها مع خيــوط أشعـة الشمس الذهبية في ساحة أندلسية جميلة تعرف بالميدان الأحمر، أو البياصة الحمراء كما يحلو لأهل درنة تسميتها، بالإيطالية )بياصة اليكو(، وكلمة )بياصة Piazza( تعني بالإيطالية ميدان، تتوسطه نافورة جميلة مرصعة بالفسيفساء، يلفت نظرك البلاط الأحمر ذي النسق الجميل الذي جاءت منه التسمية، تبعث رذاذ الماء لتلطف الجو فيها وتعكس سماء درنة الزرقاء على أديم مائها الرقراق، واعتلت النافورة رأسين لحصان لتضيف لمسة ابداعية أخرى لهذا المكان، الذي اصبح مكانًا للشباب والرجال والشيوخ ليقضوا فيه أوقاتهم في ظل المكان الذي يتسم بالرونق الاندلسي الجميل.
والبياصة الحمراء .. عبارة عن فناء مغلق تحيط به مجموعة من المقاهي العربية، وميدان ذي طراز أندلسي يعود بناؤه إلى القرن السادس عشر، من قبل العائلات الأندلسية التي استوطنت درنة، فترة تأسيس سوق الظلام الذى كان تأسيسه في فترة الحكم العثماني الثاني لليبيا )1835م – 1911م(، ويغلب عليها فن العمارة الأندلسية، وتبلغ مساحة ميدان البياصة الحمرا 50 مترًا عرض
و 120مترًا طول(.
معلم جميل ارتبط بالحضارة الأندلسية كان له أهمية كبيرة فترة العهد العثماني الثاني، ويؤكد ذلك خريطة السيد مامولي المبعوث من الجمعية الإيطالية للجغرافيا والاستكشاف، والتي انجزها في 1896م أي قبل مجيء الاحتلال الايطالي بـ 15 عامًا، وفي نهاية عشرينيات القرن الماضي فترة الاحتلال الايطالي أضيف لها رواقان بمجموعة اقواس علي جانبي الساحة، وشهدت في تلك الفترة اهتمامًا جماليًا حيث استحدث في وسطها حوض ماء تتوسطه نافورة مياه تزيد من جمالها، كما قامت لجنة التراث بمدينة درنة بإضافة رسم تمثالي لحصان من راسين زيادة في جمالها.
أخذت اسمها الشعبي المعروف نسبة إلى أرضيتها الرخامية الحمراء اللون من اعمال التبليط بالأجر في العهد الايطالي، تطل عليه محال تجارية متعددة، وشقة سكنية تسمى باللهجة الدرناوية «عللي» كانت مستغلة لأحد اعضاء الحزب الفاشستي الإيطالي يدعى «اليكو».
تتوزع في ميدان البياصة الحمراء المقاهي، وتتعالى الضحكات ويتسامر الأصدقاء والأصحاب وتزهر من خلاله الثقافة، هي الوجهة الأولى والأهم لأغلب الأمسيات الشعرية والقصصية والملتقيات الثقافية والحوارات الفكرية أيضا، فلكل مدينة قبلة ثقافيه يتوجه إليها المثقفون، وقبلة درنة الثقافية ميدان البياصة الحمراء الميدان المتعطر بالياسمين الدرناوي، صرحٌ ثقافي للمثقفين والفنانين من كل الفئات العمرية بالمدينة يحوي هذا الصرح كل الأفكار الناشئة والمترعرعة، كما أنه الوجهة الأولى والأهم لأغلب الأمسيات الشعرية والقصصية والملتقيات الثقافية والحوارات الفكرية، وفي ميدان البياصه الحمرا كان هناك نوعٌ من الزخم الثقافي، حيث الأمسيات التي يلتقى فيها الأدباء والكتَّاب والمثقفون والفنانون، فقد أقيمت العديد من المهرجانات والأمسيات والندوات الفكرية، جعلت الميدان ينبض بالفن والثقافة، واحيت نخب من شعراء مدينة درنة )ليالي الشعر( ضمن فعاليات الأمسيات الرمضانية وتحت شعار )ليالي رمضان درناوية( في البياصة الحمرا، وأقيمت الحفلات الموسيقية، والمسابقات الأدبية والمعلومات الفكرية في ليال شهر رمضان، وكانت تختتم السهرة بظهور شخصية «الطبال» ليعلن عن موعد انتهاء السهرة والاستعداد للسحور، وهي عادة درناوية قديمة.
كان الميدان الملجأ الأول، والأخير لكل من يريد أن يفكر أو يكتب، وكان عليل الياسمين، وارتشاف الشاي الأخضر بالنعناع على طاولة خشبية في فناء أحد المقاهي المقابلة للنافورة التي يعتليها رأسا حصان وأصوات المثقفين الجالسين هناك، وصفوة المكان وتصاميمه الأندلسية، كل ذلك كفيل بأن يولد فكرة ما يهرب من خلالها البعض إلى قصيدة خارج الأسوار، هذا ما جعل للبياصة قدسيتها ورونقها الثقافي المزدحم بالأقلام والقصائد والشعر الشعبي والأغاني الشعبية أيضا، تحت أقواسها الأندلسية وشجر الياسمين المنسدل من حوائطها، تعد حمام السلام للمدينة..
كانت فسحات البياصة الحمراء ترتبط بسوق الظلام والجامع الكبير ووكالة الطرابلسي، فسحات استراحة من عناء البيع والشراء ولأحاديث شؤون الساعة أحيانًا، تتقاطع بعض الأزقة لتؤدي إما دخولاً أو خروجًا من السوق وفسحاته، للبياصة الحمراء خمسة منافذ، منفذان مباشران إلى سوق الظلام ومنفذ غير مباشر عن طريق ميدان وسوق الخرازة تحاذيه من الداخل «قهوة شلغوم»، ومنفذ قرب وكالة الحصادي، ويقود إلى زقاق ينحرف بزاوية قائمة لينتهي في الزقاق الذي أتينا منه بالقرب من محل السنفاز محمد التونسي الرجل الطيب الذي جاء من تونس وطاب له المقام في مدينة درنة الزاهرة، المنفذ الجنوبي يتميز بمحل «عبد الله الحبوش» بينما يتميز المنفذ الشمالي بمحل الحاج محجوب الحصادي الذي يقع على يسار الداخل من خلاله، يلي المنفذ الذي يقود إلى ميدان الخرازة مجموعة من المحال التي تطل مباشرة على الميدان، منها محل جعفر رحيّم، ومحل علي بن خيال، والمنفذ الجنوبي في مواجهة الخارج من سوق الخضرة .. وفى قبالة البياصة الحمراء تشاهد مقهى الحاج الهرش الشهير بمختلف المشروبات الساخنة والباردة لعل أشهرها زجاجة مشروب قازوزة مصنع صداقة العائلي لصاحبه الحاج حسن صداقة التي كانت تحمل شعار )النخلة( المميز، أحد معالم مدينة درنة، وهي تقدم لك على طاولتك وأنت جالس على كرسيك، ومقهى جويدة الذي كانت تزينه لوحات جدارية رسمت بألوان زيت الزواق فكانت متقنة على أنها محسوبة على التزويقة، دليل آخر على ذوق صاحبها الرفيع، وهذه الفكرة أعجبت مواطن اردني كان يعمل في درنة ونقلها الى بلاده وأسس مطعم في العاصمة الأردنية عمان جدرانه تزينها لوحات جدارية.
البياصة الحمراء وعطرها الاندلسي بيت درنة الثقافي وقبلة الادباء والكتَّاب والشعراء والمثقفين والفنانين والرياضين داخل مدينة درنة، نشاط لهذا المعلم الثقافي الذى صدح بصوت السلم والفن والجمال، اهالي درنة متعطشون للابداع للفن والمسرح لأعمال وقفشات درناوية واعمال فنية تحيي الشارع الدرناوي الذي ازداد اقباله وحضوره للبياصة، تمثلت في اقامة سهرات كل اسبوع تنوعت ما بين الثقافية والرياضية والمسرحية وفنية وخصص يوم للمؤسسات التطوعية.
أضافت الكثير للمثقفين بالمدينة الذين تمت دعوتهم لمناسبات ثقافية وفنية عديدة في البياصة حتى أصبحوا القلب النابض لها، كما أن بداية رحلة أحد مثقفي درنة صديقي الأستاذ مصطفى الطرابلسي رحمه الله مثيرة للشغف ومليئة بالزخم الثقافي.
يقول صديقي الأستاذ مصطفى الطرابلسي رحمه الله:
بدأت رحلتي معها عام 2006م حيث أنشأ الصديق المصور شحات اشليمبو مقهى خاص بالمهتمين بالفن، وزعت على لياليه كافة من أمسيات شعرية وعرض مسرحي وليلة الموروث الثقافي وليلة الكشافة والهلال الأحمر والحفل الختامي..
البياصة الحمراء منتدى يؤمه كل عاشق لشيء اسمه الفن وفي قادم الأيام الجهود ساعية لإقامة عديد المناشط، إن مسيرة المثقفين والفنانين في ميدان البياصة حافل جدا ويدعو للفخر أيضا، طالما الياسمين يفوح عطرًا بميدانها، وطرازها الأندلسي يروي تاريخ ثقافة المدينة لكل عابر منها.
إننا أمام حالات استثنائية كثيرة صنعتْ من المكان محرابا لحياة رائعة وجميلة في زمن أروع وأجمل، في مدينة تمتعت بجمال الطبيعة الخلابة وروعة أهلها، فما بالك حين تجد نفسك أمام استثناء مميز، وعلامة حضارية وأنت تقف أمام البياصة الحمراء الجميلة.
درنة المدينة التي اتخذها الجمال موطناً له: الأكلات جميلة، الزهور جميلة، الفتيات جميلات، اللكنة جميلة، المسرح جميل، الغناء جميل، كرة القدم في أنديتها جميلة، الطريقة التي يلعب بها فريقا المدينة، النادي الافريقي ونادي دارنس ولا يشبههم في الاداء إلا فريق نادي الهلال في بنغازي وفريق نادي الوحدة في طرابلس، هي طريقة لعبهم التي عرفوا بها منذ الستينيات، حيث يلعبون الكرة للمتعة.
اختفى هذا المعلم الجميل في 11 سبتمبر سنة 2023م، عندما اجتاحت السيول التي تسبب فيها اعصار «دانيال» الذي ضرب المدينة، وراح معه أحبتنا من أخيار البلاد، رحمة الله عليهم جميعًا، واستذكره اليوم في الذكرى الأولى لهذه الكارثة الطبيعية، وأنا انظر إلى لوحة البياصة الحمراء التي رسمها الفنان أبوبكر الشيخ بريشته وهي معلقة على جدار غرفة صالون بيتي.