البُوكَشَّاش وَنَهْقَةُ الحِمَار!!!
د. رضا محمدجبران
الحنين إلى الماضي، والعودة إلى الحياة والزمن الجميل، عبر أطوار الحياة المختلفة في زوايا منفرجة، تأنس لها النفس، وتهدأ من أنسها الروح، وتطوى السنون لخفتها، وما أشبه الليلة بالبارحة!!!، فسلوة النفس لا تحتاج إلى غنى تقطع به سلاسل فقرك، وتجبر كسر نفسك، بل هي لحظات، وخلوة مع نفسك في مواقف مريحة تدخل عليك السعادة، وتنير ظلمة وحشة الزمن الذي تعيشه، قد تستدعيها مواقف تتشابه مع ذكريات عشتها، أو تندفع في هيئة حلم جميل لا ترغب في اليقظة منه.
بينا كنت جالسا في فناء بيتي قرب شجيراتي أحاول تخفيف شدة الحر عليهن في هذه الأيام الحارة، بالماء، وأستثمر وقتي مع السقي بتلاوة ما تيسر من كتاب الله الحكيم، فإذ بدويبة مألوفة في مخيلتي، تتجول بين الشجيرات، وكأن الزمن توقف عندي، وأعاد ذكرياته مع هذه الدويبة، التي نسميها ((البو كشاش)) ونعني بها الحرباء التي تتخفى، بقدرتها على التلون مع كل ما يحيط بها في حالة الخوف، أو كل ما يهدد حياتها، أو في لحظات الصيد، وربما اختلف لفظها عند بعض الناس، فمنهم من يطلق البوكشاش، على البوبريص، الذي هو الوزغ، وهذا النوع لا يتخفى إلا في شقوق الجدران، وقتله فيه أجر عظيم يصل إلى مائة حسنة، لمن قتله من الضربة الأولى، وهذا الجزاء ربما لمشاركته في النفخ على نار نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومهما اختلفت المسميات فلا عجب، لمن ارتبطت معه ذكريات يمكن ذكرها، ففي أرض بيتنا الذي ترعرعنا فيه، بمنطقة المجد، ارتبطت ذكريات طفولية جميلة، تجلت في كل زاوية من زواياه، خاصة مع دالية العنب الأسود السخية، التي كنا نتعلق بحبها في كل موسم صيف، لا نبالي بحره وقيظه، ولا رمضائه، عندما نقطف ما نضر من أوراقها، لأجل وجبة الدولمة أو البراك، ونحن نتلمظ حموضة سيقانها الطرية، ونمتص حبات حصرمها قبل نضجها، هذه الدالية السوداء، ما رأيت ما هو ألذ مذاقا وطعما منها، وكأنها سقيت من ماء الجنة والمسك، كانت عظيمة العناقيد، تتكيء على بيتنا القديم، وتمد أغصانها على عريشة خشبية عرضية، نستظل بظلها، ونتوقى حر الصيف الذي أخرج كثيرا من الأهواش، والأوباش، وكان البوكشاش أحدها عندما رأيناه في طفولتنا وأخذتنا الدهشة وهو ينتقل من غصن إلى غصن، يبحث عن شيء يسد به جوعه وقد ربض قرب صنبورة قديمة تنضح بالماء، كانت تتغذى منها الدالية، ويلتف حولها أسراب النحل والدبابير، والذباب، كنا نراقبه كيف يصطاد وهو يغير لونه بما يعمي بصر التائهين، كما تهنا مع المتلونين في هذا الزمن الصعب، كان يطلق لسانه الطويل ويسدده بضربة واحد قلما تخيب وتفشل، وبعد أن يكمل صيده، نقوم نحن بصيده، ونحجز حريته، ونلعب به ظنا منا أنه سيغير لونه في القفص الذي أعددناه له، وقد يصل أمر الحجز إلى موته دائما، ولكن موته يعتبر حياة لبعض ضعاف النفوس ممن تعلقت قلوبهم، وتوقفت عقولهم، بما يدجل به بعض المشعوذين، من أن البوكشاش علاج لمن به مس، أو سحر، وتبخيره يطرد كل روح شريرة، فأي مجتمع يقوده الجهل، تحيا فيه الخرافة، والخوارق، ويستبد فيه الدجالون بأهله، وتنقطع فيه الصلة مع الله، كما انقطعت مع أصحاب المقامة الحرزية، فالتعلق بوهم لا ينفع ولا يضر، وما أكثر هذا الهوس عند نسائنا !!، فقد راجت عندنا البضاعة، وعظمت المكافأة، بمقدار ما نصطاده من هذه الأصناف، ولكن شريطة أن يكون هذا البوكشاش ميتا لا حيا، ولا سبيل لنا لمعرفة طريقة قتله، إلا بالعودة إلى أهل المشورة وقد أخبرتنا جدتي رحمها الله تعالى أنه يموت بالملح وذلك بالضغط على بطنه، إلى أن يفتح فمه، ثم يوضع فيه الملح، وفعلا كان ما قالت حقا، وكانت تحذرنا من عضته، وحاكت لنا قصة عن رجل قد عضه بوكشاش في يده ولم يستطع فكه، وهو يصيح من كثرة الألم، حتى نهق حمار جاره، الذي كان بردا وسلاما عليه، ويا للعجب من تلك الطفولة البريئة!!! التي ألجأتنا لقتل مثل هذه الدويبة لضعف نفوس من كان يحثنا على ذلك!!، ويا للعجب ممن تلون وضعفت نفسه فقتل البشر، ودمر الحجر!!، ولا ندري أي حمار سيخلصنا من عضتنا؟ اللهم إنا نسألك لطفك، ونرجو رحمتك، ونخشى عذابك، فارفع غضبك ومقتك عنا وعن بلادنا وبلاد المسلمين.