رأي

مذكرات جنين..!! الناجي الحربي

 

أذكر فيما أذكر أنه عندما قذفني أبي في رحم أمي المبارك كنت طيلة الشهور التسعة التي قضيتها في بطنها ألوذ بقلبها فلم أشعر بجوع ولا عطش.. ولا  أذكر أنني أحسست بالبرد أو أنتابتني حرارة..  كنت أحتمي بأحشائها فيحتويني الأمن والإطمئنان..

ففي الشهر الأول تشكلت رقبتي ووجهي من دون عينين.. وفي الشهر الثاني تكون دماغي واتضحت معالم عمودي الفقري والمرفقين والركبتين وأصابع يدي والقدمين..  وحجرات قلبي الأربع..

أما في الشهر الثالث فتناسق نموي مع حجم الرأس وبشكل سريع تطورت أعضائي وأنسجتي..  وفي الشهر الرابع بدأت أمي تسمع ضربات قلبي بشيء من الوضوح..  سمعتها تقسم لأبي أنها تسمع دقاب قلبي الصغير..

كان يجب أن تعرف أمي عن طريق التصوير الضوئي ما إذا كنت أنثى أم ذكرا..  لكن في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن العشرين كانت بلادنا تبعد بمقدار ألف سنة ضوئية عن العلم في مجال الطب.. أذكر أيضا أنني في الشهر الخامس كنت شقيا..  إذ شعرت أمي بحركات الرفس داخل أحشائها..  لكنني في الشهر السادس جحظت عيناي وتطور سمعي لدرجة أنني كنت أسمع إيقاع قلب أمي الذي نسيت معه الجوع والعطش والبرد والحرارة..

في الشهر السابع كنت أزدرد بنهم الطعام الذي تتناوله أمي في هذه الفترة..  وعندما خرجت للعالم فيما بعد وبلغت الستة أشهر كان طعامي المفضل والذي أحبه كثيرا ذلك الذي كانت أمي تأكله في الشهر السابع عندما كنت في بطنها..

في الشهر الثامن أصبحت قادرا على الرؤية وتطورت حواسي حتى أنني كنت أسمع الحوارات التي تحدث مع أمي..  معظم أجهزتي نمت بشكل كامل بإستثناء رئتي..  فيما زادت ركلاتي أكثر من المعتاد..  وبكل تأكيد سبب ذلك في آلام لأمي..

في الشهر التاسع نضجت رئتاي وتناسق جسدي وبدأت عيناي ترمشان..  كنت أقبض يدي بإحكام..  وكنت أعد نفسي لمغادرة بطن أمي..  طيلة رحلتي في رحم أمي كنت منسجما مع دقات قلبها التي كما لو أنها سيمفونية إلهية.. كان قلبها ملاذي الوحيد..

بعد ولادتي صرت أشعر بالبرد أحيانا وبالحر أحيانا أخرى وكثيرا ما ينال  الجوع والعطش نصيبهما مني..  وما أن تحملني أمي وتضع رأسي على يدها اليسرى وتقربني من قلبها و أسمع دقاته الخافتة أشعر بالأرتواء وبالشبع وبالدفء  وبالأمان..

عندما تقدمت سنواتي  المتسارعة وتجاوزت أمي الألف شهر من عمرها كنت اقترب من جانبها الأيسر حيث قلبها فتعود لجسدي الثقة والأمن رغم بطء دقات قلبها..  فلم تعد نبضات قلبها منتظمة ومتناغمة كما ألفتها عندما كنت في بطنها..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى