التشكيل الليبي بين الماضي والراهن المتأزم
أتصور أن مهمة الفن التشكيلي كوسيلة تزيينية رومانسية قد استُنفدت وإلى حد بعيد , فالفن اليوم وبوصفه أداة تعبيرية مُطالب بأن يتناول الهمّ الجمعي والقضايا الإنسانية المُلحة، وبدلا من أن ينشغل بموضوعات ماضوية حنينية – إن جاز التعبير – عندما يرسم الفنان الجمل والصحراء والآثار ومعمار بلاده القديم، بدلا من ذلك وكون الفنان مثقفاً وقارئاً ومُتفاعلاً مع قضايا الإنسانية , عليه أن يصير عالميا حتى وإن لم يغادر البقعة التي يعيش فيها، لا أن تستنزفه موضوعات أكل عليها الدهر وشرب، فمن غير المعقول والمُجدي أن يرسم الفنان القافلة والجمل والصحراء والبئر القديمة وبعض مظاهر الحياة الماضية في عصر الذرة وغزو الفضاء وتقنية النانو والديجيتال وثورة التكنولوجيا وحتى الاكتشافات الجينية طيلة الوقت ولا يتطرق إلى الراهن المتأزم – على مستوى القطر الليبي على الأقل – .
ولكي يتناول الفنان هموم عصره ويكون قريبا من إيقاعه عليه أن لا يفعل ذلك بطريقة تقليدية مباشرة وإن فعل يُفترض أن يكون عملا إبداعيا لم يسبقه إليه أحد، والتجريدية والسوريالية والتعبيرية أساليب مجدية لرسم الفكرة وتشكيل الرؤية التي بقدر ما تنتمي إلى عصرها تكون مقنعة وفاعلة .
أخطار كثيرة تتهدد البشرية في وجودها منها ما هو ظاهر وما هو باطن، على الفنان أن يرصد هذه الأخطار المحدقة بالبشرية على سبيل المثال ويتناولها في أعماله ويحذر منها , وعليه في كل الأحوال أن يتفاعل مع انعكاساتها على ذاته برسمه لهمومه الشخصية وهواجسه كإنسان يشارك الآخرين الحياة فوق الأرض .
على الفنان أن ينخرط في مخاض العالم كعضو مثقف وفاعل – مثقف عضوي – ليسهم من ناحيته في تغييره إلى الأفضل ويجب ألا تساور الشكوك الفنان حول جدوى مساهمته في عملية التغيير ومهما كانت بسيطة ومتواضعة فإنَّ محاولاته مع مجهودات الآخرين ستؤتي ثمارها ولو بعد حين .
وفي هذا الإطار وداخل المشهد التشكيلي الليبي ثمة من يرسم متسلحاً بهذه القناعة والرؤية التي قادتهُ إليها أسئلة التجريب والتجديد التشكيلي، إذ لا بد للفنان في أعتقادي من أن يطور تجربته ولا يستكين إلى أسلوب أو رؤى معينة ويجعل البحث والمساءلة أساساً لأعماله الفنية ويكون على احتكاك دائم بتطور الفن في العالم كافة , وقريبا من هذا السياق او بداخله تماما تتحرك بحرية محسوبة تجربة كل من الفنانيَن الليبيين معتوق ابوراوي وعلي المنتصر، إذ تجاوز الأول بمسافات ضوئية بداياته وتقليديته ليتناول بشيء من الحماس في أعماله اللاحقة قضايا الحروب والهجرة غير الشرعية وليضع بالتالي دوائر حمراء حول الوجود الهش للآنسان والموت العبثي المتربص به، ويرسم سوريالية الواقع وغرائبيته بل وحتى وحشيته ولا عقلانيته سيما وأن الفنان عرض أعماله في أكثر من دولة في أوروبا والأمريكتين، وكونه يعرض لمتلقي واع نسبياً كان عليه أن يحافظ على رُقي خطابه وفنيته العالية حتى تصل رسالته , ولربما كان سببا في إصلاح العالم بأعماله التي تتخذ من الصدام والفضح والأحتجاج لغة لها، وإذ يرسم الفنان آثار الحروب وقوارب الموت فآنهُ بالضرورة يرسم الجوع والمرض والفقر والجهل والأمية والصراعات الأثنية وانتشار الجريمة والتطرف العقائدي .
كل هذا يرسمه الفنان إذ يرسم قاربا مطاطيا أو خشبيا ترفعه الأمواج عاليا لتقلبه رأساً على عقب بمن فيه من نساء وأطفال ورجال مسلوبي الإرادة، والأهم من كل هذا أن الفنان الذي يمتلك رؤية واضحة وتفسير منطقي للوجود يرسم ما يريد رسمه لا ما تفرضه عليه اعتبارات خارجية ولا يهادن بخصوص قناعاته ولا يذهب إلى مداهنة المتلقي أو التودد إليه حتى يُقبل على تذوق أعماله، بل أن الفنان يحاول بما يفعل التأثير في المتلقي وزحزحته عن نظرته التقليدية للفن وتغيير الفكرة النمطية التي يحملها عنهُ ودفعه إلى خوض مغامرة على مستوى التأويل والأرتقاء إلى رؤية الفنان , وفي ذلك ارتقاء لكليهما وارتقاء للفن في العموم .
■ ناصر سالم المقرحي