في الوقت الذي تتسارع فيه خطى العالم نحو أنظمة دفع أكثر ذكاءً وأقل اعتمادًا على النقد، يجد المواطن الليبي نفسه بين خيارين متناقضين: بطاقة مصرفية تقدّم حلولًا حديثة لكنها محاطة بتحديات الواقع، وكاش ما يزال يتربّع على عرش التعاملات رغم مشاكله. وبين هذا وذاك، ظهرت منظومة الدفع بالبطاقة كملف محوري يمس حياة الناس اليومية، لا لأنها مجرد وسيلة مالية، بل لأنها مؤشر على جاهزية الاقتصاد للتحول الرقمي، وقدرة المواطن على دخول مرحلة جديدة من السهولة والشفافية. فالانتقال من اليد التي تُسلّم النقود إلى البطاقة التي تلامس الجهاز لم يعد ترفًا، بل خطوة نحو نمط معيشي مختلف تمامًالكنها خطوة لم تكتمل بعد، وتحتاج إلى قراءة أعمق ودراسة أوضح لواقع التطبيق والتحديات القائمة
فقد أصبحت البطاقة المصرفية اليوم جزءًا أساسيًا من المنظومة الاقتصادية الحديثة، وواحدة من أهم أدوات الدفع الإلكتروني التي تساهم في تسهيل الحياة اليومية للمواطنين. فمع التحول الرقمي العالمي، لم يعد الاعتماد على النقود الورقية «الكاش» خيارًا مناسبًا في كل الظروف، خاصة في ظل ازدياد المعاملات المالية وتنوعها. وفي ليبيا، ورغم التطور الملحوظ خلال السنوات الأخيرة في نشر خدمات نقاط البيع والدفع الإلكتروني، إلا أنّ الطريق ما يزال طويلًا قبل الوصول إلى منظومة متكاملة وآمنة وفعّالة.
و تُعتبر البطاقة المصرفية وسيلة دفع حديثة تمنح المستخدم عدة مزايا، أبرزها الراحة والسرعة والأمان. فبدل حمل مبالغ مالية كبيرة، يستطيع المواطن الدفع مباشرة من حسابه عند شراء السلع أو دفع الخدمات. ومع إدخال تقنيات جديدة مثل الدفع اللاتلامسي و أصبحت العملية تستغرق ثوانٍ فقط دون الحاجة لإدخال الرقم السري في بعض الحالات.
كما تساعد البطاقة المصرفية على الحد من مخاطر السرقة أو فقدان النقود، وتوفر وسيلة تتبع للعمليات المالية عبر الكشوفات البنكية، مما يعزز الشفافية وينظّم الإنفاق الشخصي. وفي بيئة اقتصادية تشهد تقلبات في توفر السيولة، تصبح البطاقة المصرفية جزءًا مهمًا في تحقيق نوع من الاستقرار في التعاملات اليومية.
فقد شهدت ليبيا توسعًا ملحوظًا في استخدام البطاقة المصرفية خلال الفترة الماضية، وتحديدًا منذ بداية أزمة نقص السيولة النقدية، مما دفع المواطنين للبحث عن بدائل. كما ساهمت الدولة والقطاع الخاص في نشر عدد كبير من نقاط البيع «POS»، خصوصًا في المدن الكبرى ورغم ذلك، فإن الاعتماد على الدفع الإلكتروني لا يزال محدودًا مقارنة بما هو مطلوب. فعدد كبير من الأنشطة التجارية، خاصة الصغيرة منها، لا تزال تعتمد على التعاملات النقدية فقط. كما أن بعض القطاعات الحيوية مثل المخابز، المحطات، الأسواق الشعبية، والعيادات الخاصة لا توفر خدمة الدفع الإلكتروني بشكل دائم أو موثوق.
ورغم هذا لا يزال المواطن يواجه مجموعة من الصعوبات عند استخدام البطاقة المصرفية، ومن أهمها:
قلة توفر الخدمة في كثير من المحلات
حيث ان عدد كبير من المحلات التجارية والورش والأسواق لا يمتلك جهاز نقطة بيع. ويعود ذلك لعدة اسباب منها ضعف الوعي بأهمية الدفع الإلكتروني.
وعدم رغبة بعض التجار في إظهار حجم مبيعاتهم الحقيقي.
وارتفاع تكلفة تركيب وصيانة بعض الأجهزة.
وضعف ثقافة التحول الرقمي داخل بعض القطاعات.
إلى جانب ضعف شبكة الإنترنت وانقطاع الكهرباء التى تُعد هذه المشكلة من أكبر التحديات؛ فالدفع الإلكتروني يعتمد بشكل مباشر على الاتصال بالشبكة. وفي حال انقطاع الكهرباء أو ضعف الشبكة، تتوقف العملية بالكامل، مما يسبب ازدحامًا وإحراجًا للمستخدم والبائع معًا.
ناهيك عن مشاكل تأخر خصم المبلغ أو تعليق العمليات فأحيانًا، تتم عملية الدفع ولكن لا يظهر الخصم مباشرة في حساب المواطن، أو يحدث تعليق للمبلغ لفترة. وهذا يولّد فقدان الثقة في النظام لدى البعض ويدفعهم لتفضيل الكاش.
أما عن رسوم السحب والتحويل فإن بعض المواطنين يعتبرون أن تكلفة السحب من أجهزة الصراف أو رسوم الخدمة مرتفعة نسبيًا، مما يجعلهم يعتمدون على الكاش طالما كان متوفرًا لديهم.
وهذا يقودنا الى نقطة نقص التوعية والاستخدام الخاطئ فالكثير من المستخدمين لا يعرفون كيفية حماية بيانات بطاقاتهم أو تجنب الاحتيال الإلكتروني. كما لا يعرف البعض طريقة استخدام نقاط البيع الحديثة أو كيفية التعامل مع الأعطال البسيطة.
الى جانب محدودية سقف الشراء اليومي
ففي بعض المصارف، يكون السقف اليومي للشراء أو السحب محدودًا، وهذا يعيق استخدام البطاقة في المشتريات ذات القيمة العالية.
وهنا السؤال المهم الذى يطرح نفسه وهو لماذا ما يزال الكاش هو الخيار الأسهل؟
رغم توفر البطاقات المصرفية وانتشار نقاط البيع، إلا أن الكاش ما يزال «ملك التعاملات اليومية» عند الكثيرين، وذلك للأسباب التالية:
بساطة التعامل: الدفع النقدي لا يحتاج شبكة أو جهاز أو تأكيد.
قبول محليًا: كل محل وكل بائع يقبل الدفع نقدًا، بعكس البطاقة.
تجنب الأعطال التقنية: المواطن لا يريد الوقوع في مشكلة تعليق العملية أو فشلها.
تعود ثقافي: المجتمع الليبي معتاد على التعامل نقدًا منذ عقود طويلة.
الخوف من الخصم المزدوج: بعض التجارب السابقة جعلت الناس متخوفين من الأخطاء التقنية.
ورغم ذلك، يظل الاعتماد الكامل على الكاش محفوفًا بالمخاطر، ومنها فقدان المال، صعوبة الإدارة المالية، وزيادة الضغط على المصارف للحصول على السيولة.
فالتحول للدفع الإلكتروني ليس مجرد راحة للمستخدم، بل له تأثيرات واسعة على الدولة والاقتصاد، منها:
تقليل استخدام السيولة الورقية وبالتالي تخفيف الأزمة.
و رفع مستوى الشفافية وتقليل التهرب الضريبي.
الى جانب تعزيز الأمان المالي والحد من السرقة والمضاربات.
وتسهيل جمع البيانات حول حركة السوق، مما يساعد في التخطيط الاقتصادي.
كذلك رفع كفاءة العمل المصرفي وتقليل الازدحام أمام المصارف.
و لكن لتطوير منظومة الدفع الإلكتروني، لابد من اتخاذ مجموعة من الخطوات المهمة، وتشمل:
دعم التجار وتوسيع قاعدة الاستخدام
وتوفير حوافز مالية أو ضريبية للتجار الذين يوفرون نقاط البيع، وتشجيع أصحاب الأنشطة الصغيرة على استخدامها.
الى جانب تحسين البنية التحتية الرقمية
وتطوير شبكات الإنترنت، وتوفير بدائل اتصال في حال انقطاع الكهرباء، مثل أجهزة مرتبطة بالاتصال عبر الشريحة (SIM).
والاهم نشر الوعي بين المواطنين عبر حملات توعية توضح أهمية الدفع الإلكتروني، وكيفية حماية البطاقة، ومزايا استخدامها.
الى جانب تخفيض رسوم المعاملات
و تحفيز المستخدمين عبر تقليل الرسوم أو إلغائها في فترات معينة.
وتطوير أنظمة المصارف بتحسين سرعة المعالجة، منع تعليق العمليات، وإظهار العمليات في الحساب بشكل فوري.
و توسيع سقف الشراء اليومي ليتناسب مع احتياجات المواطنين، خاصة في ظل غلاء الأسعار.
فمع تسارع التحول الرقمي في العالم، أصبح من الضروري أن تواكب ليبيا هذا التطور. ورغم التحديات، إلا أن مؤشرات النمو في هذا القطاع إيجابية، حيث تزداد أعداد نقاط البيع سنويًا، وتعمل الكثير من المصارف على تطوير خدماتها وإطلاق تطبيقات حديثة.
ومع ازدياد ثقة المواطنين وتحسّن البنية التحتية، سيصبح الدفع الإلكتروني جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، وسيقل الاعتماد على الكاش تدريجيًا، مما سيُحدث نقلة نوعية في الاقتصاد الليبي.
وفي نهاية هذا التقرير، يتبيّن أن الدفع بالبطاقة المصرفية لم يعد مجرد خيار إضافي في المعاملات اليومية، بل أصبح مساحة اختبار حقيقية لمدى قدرة المجتمع الليبي على مواكبة التحول الرقمي بثقة واستقرار. فالمنظومة اليوم تقف بين واقع مليء بالعوائق ووعود مستقبلية تحمل الكثير من الأمل. ومع كل خطوة نحو تحسين البنية التحتية، ورفع الوعي، وتوسيع دائرة الاستخدام، يقترب المواطن من يوم يصبح فيه الاعتماد على الكاش مجرد خيار ثانوي لا أكثر. إن نجاح الدفع الإلكتروني ليس مرهونًا بالتقنية وحدها، بل بإرادة مشتركة بين مؤسسات الدولة والمصارف والتجار والمستخدمين، لبناء نظام مالي أكثر شفافية وسهولة وأمان. وما بين التحديات الحالية والطموحات المستقبلية، يبقى الأمل قائمًا في أن تتحول البطاقة المصرفية من تجربة متعثرة إلى ركيزة ثابتة في الاقتصاد الليبي الحديث.



