تقارير

الدولار وقوت المواطن الوقت يمر .. والأزمة ليست عابرة

عبير علي أبو عافية

في‭ ‬بلدٍ‭ ‬يطفو‭ ‬على‭ ‬بحرٍ‭ ‬من‭ ‬النفط‭ ‬والغاز،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الحياةُ‭ ‬أكثر‭ ‬استقرارًا‭ ‬ورفاهيةً،‭ ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬المعاكس‭. ‬فمنذ‭ ‬سنوات‭ ‬والعُملة‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬هبوطٍ‭ ‬حاد‭ ‬أمام‭ ‬الدولار،‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬أسعار‭ )‬السلع‭ ‬الأساسية،‭ ‬والدواء،‭ ‬والخدمات‭(‬،‭ ‬وحتى‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبي‭.‬

اليوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الحديثُ‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ارتفاع‭ ‬الدولار‮»‬‭ ‬مجرد‭ ‬مسألة‭ ‬اقتصادية،‭ ‬بل‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬أزمة‭ ‬نفسية،‭ ‬واجتماعية‭ ‬تمس‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬ليبي‭.‬

الفجوة‭ ‬الطبقية‭:‬‭ ‬من‭ ‬الثراء‭ ‬الفاحش‭ ‬إلى‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع‭.‬

أكبر‭ ‬نتائج‭ ‬انهيار‭ ‬الدينار‭ ‬أمام‭ ‬الدولار‭ ‬كانت‭ ‬الفجوة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يزداد‭ ‬فيه‭ ‬ثراء‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استغلال‭ ‬السوق‭ ‬السوداء‭ ‬وتحويلات‭ ‬العُملة،‭ ‬تتسع‭ ‬دائرة‭ ‬الفقراء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬مجاراة‭ ‬الأسعار‭.‬

تشير‭ ‬بيانات‭ ‬مصرف‭ ‬ليبيا‭ ‬المركزي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدينار‭ ‬فقد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬70‭% ‬من‭ ‬قيمته‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬الأخير،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬متوسط‭ ‬مرتب‭ ‬الموظف‭ ‬الحكومي،‭ ‬البالغ‭ ‬حوالي‭ ‬1000‭ ‬دينار‭ ‬شهريًا،‭ ‬لا‭ ‬يغطي‭ ‬سوى‭ ‬حاجات‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المعيشة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬تحويله‭ ‬بالدولار‭.‬

هذا‭ ‬التفاوت‭ ‬خلق‭ ‬شعورًا‭ ‬بالظلم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ )‬المال‭ ‬هو‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭(‬،‭ ‬وأدى‭ ‬إلى‭ ‬انكماش‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تاريخيًا‭ ‬صمام‭ ‬أمان‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبي‭.‬

الأثر‭ ‬النفسي‭:‬‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬الانتحار

لم‭ ‬تعد‭ ‬الأزمة‭ ‬مجرد‭ ‬أرقام‭ ‬تُتداول‭ ‬في‭ ‬نشرات‭ ‬اقتصادية،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬تعكس‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬نفسية‭ ‬المواطن‭.‬

الضغوط‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وغياب‭ ‬الأمل‭ ‬دفعًا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬الهروب‭ ‬نحو‭ ‬المخدرات،‭ ‬أو‭ ‬المغامرة‭ ‬عبر‭ ‬الهجرة‭ ‬غير‭ ‬الشرعية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الانتحار‭ ‬كخيار‭ ‬نهائي‭.‬

التقارير‭ ‬الطبية‭ ‬والنفسية‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬طرابلس‭ ‬المركزي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬حالات‭ ‬الاكتئاب‭ ‬الحاد‭ ‬بنسبة‭ ‬تتجاوز‭ ‬40‭% ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وارتفاع‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬الانتحار‭ ‬بين‭ ‬الفئة‭ ‬العمرية‭ )‬18‭ – ‬35‭ ‬سنة‭(.‬

هذا‭ ‬الواقع‭ ‬يضع‭ ‬أمامنا‭ ‬مؤشرًا‭ ‬خطيرًا‭:‬‭ ‬أزمة‭ ‬الدولار‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قضية‭ ‬مال‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬مسّتْ‭ ‬جوهر‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬للمجتمع‭.‬

الجريمة‭ ‬والانحراف‭:‬‭ ‬شباب‭ ‬بين‭ ‬مطرقة‭ ‬الغلاء‭ ‬وسندان‭ ‬‮«‬الموضة‮»‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬إغفال‭ ‬الجانب‭ ‬الاجتماعي‭. ‬فالشباب‭ ‬الليبي،‭ ‬الذي‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬أساسيات‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬مجاراة‭ ‬‮«‬الموضة‮»‬‭ ‬العالمية،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬ينزلق‭ ‬نحو‭ ‬الجريمة‭ ‬والانحراف‭.‬

الشرطة‭ ‬القضائية‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬وبنغازي‭ ‬سجّلت‭ ‬في‭ ‬العامين‭ ‬الأخيرين‭ ‬ارتفاعًا‭ ‬بنسبة‭ ‬30‭% ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬السرقة‭ ‬والسطو‭ ‬المسلح،‭ ‬بينما‭ ‬انتشرتْ‭ ‬ظواهر‭ ‬خطيرة‭ ‬مثل‭ : ‬تجارة‭ ‬المخدرات‭ ‬والاحتيال‭ ‬الإلكتروني‭ ‬كوسائل‭ ‬بديلة‭ ‬‮«‬لتحقيق‭ ‬الثراء‭ ‬السريع‮»‬‭.‬

وبينما‭ ‬يبحث‭ ‬بعض‭ ‬الشباب‭ ‬عن‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬عبر‭ ‬‮«‬الجردينة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬الكماليات،‭ ‬يجد‭ ‬آخرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬أمام‭ ‬خيار‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المهن‭ ‬الهامشية،‭ ‬أو‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬غير‭ ‬مشروعة‭.‬

الخدمات‭ ‬الصحية‭: ‬الدواء‭ ‬خارج‭ ‬متناول‭ ‬المواطن

من‭ ‬أخطر‭ ‬انعكاسات‭ ‬الأزمة‭ ‬أيضًا‭ ‬أنها‭ ‬ضربتْ‭ ‬مباشرة‭ ‬قطاع‭ ‬الصحة‭. ‬ارتفاع‭ ‬الدولار‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬أسعار‭ ‬الدواء‭ ‬المستورد‭ ‬أرقامًا‭ ‬فلكية،‭ ‬وحوّل‭ ‬فكرة‭ ‬العلاج‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حلم‭ ‬بعيد‭ ‬المنال‮»‬‭.‬

تؤكد‭ ‬تقارير‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬60‭% ‬من‭ ‬الأدوية‭ ‬الأساسية‭ ‬مفقودة‭ ‬من‭ ‬الصيدليات‭ ‬العامة،‭ ‬بينما‭ ‬يلجأ‭ ‬المواطنون‭ ‬للسوق‭ ‬السوداء‭ ‬حيث‭ ‬الأسعار‭ ‬مضاعفة‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭.‬

أما‭ ‬مرضى‭ ‬الأورام‭ ‬والفشل‭ ‬الكلوي،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحوا‭ ‬الضحية‭ ‬الأكبر،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬العلاج‭ ‬الكافي‭ ‬ولا‭ ‬إمكانية‭ ‬للسفر،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬بعضهم‭ ‬لمخاطبة‭ ‬الإعلام‭ ‬علّ‭ ‬صوتهم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬المسؤولين،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭.‬

الإعلام‭: ‬صوت‭ ‬يصرخ‭ ‬في‭ ‬وادٍ‭ ‬سحيق

منذ‭ ‬بداية‭ ‬الأزمة،‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬الإعلام‭ ‬الليبي‭ ‬مكتوف‭ ‬الأيدي‭.‬

صحيفة‭ ‬‮«‬فبراير‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المنابر‭ ‬الصحفية‭ ‬حاولتْ‭ ‬مرارًا‭ ‬دق‭ ‬ناقوس‭ ‬الخطر،‭ ‬عبر‭ ‬تقارير‭ ‬وتحقيقات‭ ‬معمقة‭ ‬تكشف‭ ‬خطورة‭ ‬ارتفاع‭ ‬الدولار‭ ‬وتبعاته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية‭.‬

لكن‭ ‬المعضلة‭ ‬الكبرى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأصوات‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬آذانًا‭ ‬صاغية‭ ‬لدى‭ ‬المسؤولين‭. ‬السلطة‭ ‬الرابعة،‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عين‭ ‬المواطن‭ ‬ولسانه،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬تصرخ‭ ‬في‭ ‬فراغ‭.‬

ناقوس‭ ‬الخطر‭: ‬هل‭ ‬من‭ ‬مجيب‭ ‬؟‭!‬

ارتفاع‭ ‬الدولار‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مجرد‭ ‬أزمة‭ ‬اقتصادية‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬تهديد‭ ‬حقيقي‭ ‬لبنية‭ ‬المجتمع‭ ‬واستقراره‭. ‬من‭ ‬الانتحار‭ ‬إلى‭ ‬الجريمة،‭ ‬ومن‭ ‬المرضى‭ ‬المحرومين‭ ‬من‭ ‬الدواء‭ ‬إلى‭ ‬العائلات‭ ‬الغارقة‭ ‬في‭ ‬الفقر،‭ ‬كلها‭ ‬مظاهر‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬اللاعودة‭.‬

في‭ ‬بلد‭ ‬يملك‭ ‬أكبر‭ ‬احتياطات‭ ‬نفطية‭ ‬في‭ ‬إفريقيا،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المقبول‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬المواطن‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬فقدان‭ ‬أبسط‭ ‬مقومات‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭. ‬الأزمة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مقالات،‭ ‬أو‭ ‬مناشدات،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬حلول‭ ‬عملية‭ ‬عاجلة‭: ‬إصلاح‭ ‬مالي،‭ ‬ضبط‭ ‬سوق‭ ‬العُملة،‭ ‬دعم‭ ‬مباشر‭ ‬للفئات‭ ‬الأكثر‭ ‬ضعفًا،‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للطبقة‭ ‬الوسطى‭.‬

الوقت‭ ‬يمر،‭ ‬والناقوس‭ ‬يدق‭. ‬السؤال‭:‬‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬مَنْ‭ ‬يسمع‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬الأزمة‭ ‬إلى‭ ‬انفجار‭ ‬اجتماعي‭ ‬شامل؟‭!.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى