
في كل صباحٍ، تُفتح صفحات الحوادث على صورٍ دامية، وأرقام صادمة، تُخفي وراءها مآسي عائلات تحطّمتْ أحلامها في لحظة، ووجع لا ينطفيء. حوادث السير لم تعد مجرد أخبار عابرة في ليبيا، بل تحوّلتْ إلى كابوس يومي يطارد المواطن أينما وُجد، من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال.ففي غضون أسبوعين فقط، ُسجِلتْ عشرات الحوادث المروعة، خلّفتْ وراءها قتلى وجرحى، وأطفالًا يُتموا، وشبابًا في عمر الزهور أصبحوا مقعدين إلى الأبد.
طرقات رئيسة تحوَّلتْ إلى مقابر مفتوحة، فغياب الصيانة، وتردّي البنية التحتية، والسرعة الجنونية، واستعمال النقال أثناء القيادة، وضعف الرقابة المرورية، كلها أسبابٌ تتكامل لصناعة مأساة متكرَّرة. حتى المساجد، وفي سابقة لافتة، خصّصتْ خُطب الجمعة للتحذير من خطر الاستهتار في القيادة، بعد أن تجاوز الأمر حدود الصمت والاحتمال.
في هذا الاستطلاع، نرصد آراء مواطنين، وسائقي سيارات، وأسرًا فقدتْ أبناءها، وشهادات أطباء الطوارئ الذين يقفون يوميًا على خط المواجهة مع ضحايا الطرق. قصص حقيقية من واقع مرير، نضعها أمام الجهات المعنية، فربما يهزّ الصوت الإنساني ضمائر المسؤولين.
أم محمد أم فقدتْ ابنها )21(سنة في حادث طريق سريع قرب طرابلس:
ولدَّي طلع الصبح فرحان ماشي للجامعة، وبعد ساعتين جانا اتصال إنه مات. كان ماشي بسرعة عادية، لكن حفرة في الطريق سببت الحادث. ما حد سأل علينا بعدها، حتى تقرير الحادث ما استلمناهش للآن. حوادث الطرق خطفتْ شبابنا أكثر من الحرب.
سائق تاكسي
اللي يصير في الطرقات جريمة متكاملة. طرق محفرة، إشارات ما تشتغل، سواق متهورين خاصة صغار السن، والبوليس قليل في الشوارع. مرات نقود السيارة وخايف أكثر من اللي راكب جنبي.
طبيب طواريء بمستشفى الحوادث طرابلس يقول :
نستقبل يوميًا 15 إلى 20 مصابًا بسبب حوادث السير، وفي بعض الأيام تصل الأعداد لـ30 وأكثر. في أسبوع واحد فقدنا 8 شباب تحت سن الـ25 معظمهم بسبب السرعة، وعدم لبس الحزام، وعدم احترام قواعد المرور. والنّاس تحس أن الحوادث صارت عادية وهذا أخطر شي.
حسين شاب في العشرينيات أُصيب ببتر في ساقه بعد حادث:
«كان عندي مراجعة في مستشفى «شارع الزاوية»، خرجتُ مشيًا، فجأة سيارة تسير عكس الاتجاه صدمتني. فَقَدتُ رجلي اليسرى. الحادث لحظة، لكن الألم باقي طول العمر. السائق لاذ بالفرار وما حد سأل فيّ إلا أهلي.
الشيخ سراج – إمام مسجد
خصّصتُ خطبتي الجمعة الماضية بالكامل للحوادث، لأنّنا ندفن يوميًا شبابًا ماتوا على الطرقات.
قلتُ للنّاس: قيادة السيارة أمانة، ومن يستهتر بها كأنه يقتل عمدًا. لكن من يسمع؟!.
شريفة – ممرضة في طوارئ مستشفى
أصعب لحظة لما تدخل أم تصرخ على جثة ولدها، أو لما نسحب طفلة من حضن أمها لأنها ماتت.
الحوادث ما تقتلش بس أجساد، تقتل قلوبًا وأرواحًا، وتترك حزنًا ما يتنساش».
فما بين صوت صفارات الإسعاف، ودموع الأمهات، وصور الضحايا المتناثرة على الإسفلت، يبقى السؤال الأكثر إيلامًا: لماذا تحوّلتْ طرقاتنا إلى مصائد موت؟ لماذا يُقتل الليبي يوميًا لا في حرب، ولا في اشتباك، بل في رحلة عمل، أو عودة من المدرسة، أو زيارة عائلية؟
القصص التي رصدناها في هذا الاستطلاع لا تمثل إلا عينة بسيطة من مشهد مرعب يتكرّر في مختلف المدن الليبية. مشهد يتغذى على غياب القانون، وتهالك البنية التحتية، والقيادة المتهورة، واللامبالاة المزمنة، وكأن الأرواح لا قيمة لها في معادلة الحياة اليومية.
كيف يمكن أن نتحدث عن دولة تسعى للاستقرار والنهوض، بينما آلاف الأرواح تُزهق على طرق مهترئة، لا إنارة فيها، ولا إشارات، ولا رادارات، ولا صيانة دورية؟
كيف يُسمح لأطفال دون السن القانوني بقيادة سيارات، ويتحوّل الهاتف المحمول إلى رفيق السائق بدلًا من التركيز على الطريق؟.
كيف يُصاب شابٌ بالشلل، أو تُبتر أطرافه، ولا يجد من يسانده طبيًا، أو قانونيًا أو حتى معنويًا؟
إننا أمام أزمة ليستْ فقط مرورية، بل أزمة أخلاقية ومجتمعية، تتطلب من كل مسؤول أن ينظر في المرآة، ويتحمل جزءًا من المسؤولية. الجهات المعنية من وزارة الداخلية إلى البلديات.