اجتماعي

الموت المجاني على الإسفلت..!!

شهد عبد الحفيظ

في‭ ‬كل‭ ‬صباحٍ،‭ ‬تُفتح‭ ‬صفحات‭ ‬الحوادث‭ ‬على‭ ‬صورٍ‭ ‬دامية،‭ ‬وأرقام‭ ‬صادمة،‭ ‬تُخفي‭ ‬وراءها‭ ‬مآسي‭ ‬عائلات‭ ‬تحطّمتْ‭ ‬أحلامها‭ ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬ووجع‭ ‬لا‭ ‬ينطفيء‭.‬‭ ‬حوادث‭ ‬السير‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مجرد‭ ‬أخبار‭ ‬عابرة‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬بل‭ ‬تحوّلتْ‭ ‬إلى‭ ‬كابوس‭ ‬يومي‭ ‬يطارد‭ ‬المواطن‭ ‬أينما‭ ‬وُجد،‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬ومن‭ ‬الجنوب‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭.‬ففي‭ ‬غضون‭ ‬أسبوعين‭ ‬فقط،‭ ‬ُسجِلتْ‮ ‬‭ ‬عشرات‭ ‬الحوادث‭ ‬المروعة،‭ ‬خلّفتْ‭ ‬وراءها‭ ‬قتلى‭ ‬وجرحى،‭ ‬وأطفالًا‭ ‬يُتموا،‭ ‬وشبابًا‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الزهور‭ ‬أصبحوا‭ ‬مقعدين‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭.‬

طرقات‭ ‬رئيسة‭ ‬تحوَّلتْ‭ ‬إلى‭ ‬مقابر‭ ‬مفتوحة،‭ ‬فغياب‭ ‬الصيانة،‭ ‬وتردّي‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬والسرعة‭ ‬الجنونية،‭ ‬واستعمال‭ ‬النقال‭ ‬أثناء‭ ‬القيادة،‭ ‬وضعف‭ ‬الرقابة‭ ‬المرورية،‭ ‬كلها‭ ‬أسبابٌ‭ ‬تتكامل‭ ‬لصناعة‭ ‬مأساة‭ ‬متكرَّرة‭. ‬حتى‭ ‬المساجد،‭ ‬وفي‭ ‬سابقة‭ ‬لافتة،‭ ‬خصّصتْ‭ ‬خُطب‭ ‬الجمعة‭ ‬للتحذير‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬الاستهتار‭ ‬في‭ ‬القيادة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجاوز‭ ‬الأمر‭ ‬حدود‭ ‬الصمت‭ ‬والاحتمال‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الاستطلاع،‭ ‬نرصد‭ ‬آراء‭ ‬مواطنين،‭ ‬وسائقي‭ ‬سيارات،‭ ‬وأسرًا‭ ‬فقدتْ‭ ‬أبناءها،‭ ‬وشهادات‭ ‬أطباء‭ ‬الطوارئ‭ ‬الذين‭ ‬يقفون‭ ‬يوميًا‭ ‬على‭ ‬خط‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬ضحايا‭ ‬الطرق‭. ‬قصص‭ ‬حقيقية‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مرير،‭ ‬نضعها‭ ‬أمام‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية،‭ ‬فربما‭ ‬يهزّ‭ ‬الصوت‭ ‬الإنساني‭ ‬ضمائر‭ ‬المسؤولين‭. ‬

أم‭ ‬محمد‭ ‬أم‭ ‬فقدتْ‭ ‬ابنها‭ )‬21‭(‬سنة‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬طريق‭ ‬سريع‭ ‬قرب‭ ‬طرابلس‭:‬

ولدَّي‭ ‬طلع‭ ‬الصبح‭ ‬فرحان‭ ‬ماشي‭ ‬للجامعة،‭ ‬وبعد‭ ‬ساعتين‭ ‬جانا‭ ‬اتصال‭ ‬إنه‭ ‬مات‭. ‬كان‭ ‬ماشي‭ ‬بسرعة‭ ‬عادية،‭ ‬لكن‭ ‬حفرة‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬سببت‭ ‬الحادث‭. ‬ما‭ ‬حد‭ ‬سأل‭ ‬علينا‭ ‬بعدها،‭ ‬حتى‭ ‬تقرير‭ ‬الحادث‭ ‬ما‭ ‬استلمناهش‭ ‬للآن‭. ‬حوادث‭ ‬الطرق‭ ‬خطفتْ‭ ‬شبابنا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الحرب‭.‬

سائق‭ ‬تاكسي

اللي‭ ‬يصير‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬جريمة‭ ‬متكاملة‭. ‬طرق‭ ‬محفرة،‭ ‬إشارات‭ ‬ما‭ ‬تشتغل،‭ ‬سواق‭ ‬متهورين‭ ‬خاصة‭ ‬صغار‭ ‬السن،‭ ‬والبوليس‭ ‬قليل‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭. ‬مرات‭ ‬نقود‭ ‬السيارة‭ ‬وخايف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللي‭ ‬راكب‭ ‬جنبي‭.‬

طبيب‭ ‬طواريء‭ ‬بمستشفى‭ ‬الحوادث‭ ‬طرابلس‭ ‬يقول‭ :‬

نستقبل‭ ‬يوميًا‭ ‬15‭ ‬إلى‭ ‬20‭ ‬مصابًا‭ ‬بسبب‭ ‬حوادث‭ ‬السير،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأيام‭ ‬تصل‭ ‬الأعداد‭ ‬لـ30‭ ‬وأكثر‭. ‬في‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬فقدنا‭ ‬8‭ ‬شباب‭ ‬تحت‭ ‬سن‭ ‬الـ25‭ ‬معظمهم‭ ‬بسبب‭ ‬السرعة،‭ ‬وعدم‭ ‬لبس‭ ‬الحزام،‭ ‬وعدم‭ ‬احترام‭ ‬قواعد‭ ‬المرور‭. ‬والنّاس‭ ‬تحس‭ ‬أن‭ ‬الحوادث‭ ‬صارت‭ ‬عادية‭ ‬وهذا‭ ‬أخطر‭ ‬شي‭.‬

حسين‭   ‬شاب‭ ‬في‭ ‬العشرينيات‭ ‬أُصيب‭ ‬ببتر‭ ‬في‭ ‬ساقه‭ ‬بعد‭ ‬حادث‭:‬

‮«‬كان‭ ‬عندي‭ ‬مراجعة‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬الزاوية‮»‬،‭ ‬خرجتُ‭ ‬مشيًا،‭ ‬فجأة‭ ‬سيارة‭ ‬تسير‭ ‬عكس‭ ‬الاتجاه‭ ‬صدمتني‭. ‬فَقَدتُ‭ ‬رجلي‭ ‬اليسرى‭. ‬الحادث‭ ‬لحظة،‭ ‬لكن‭ ‬الألم‭ ‬باقي‭ ‬طول‭ ‬العمر‭. ‬السائق‭ ‬لاذ‭ ‬بالفرار‭ ‬وما‭ ‬حد‭ ‬سأل‭ ‬فيّ‭ ‬إلا‭ ‬أهلي‭.‬

الشيخ‭ ‬سراج‮ ‬‭ –  ‬إمام‭ ‬مسجد‭ ‬

خصّصتُ‭ ‬خطبتي‭ ‬الجمعة‭ ‬الماضية‭ ‬بالكامل‭ ‬للحوادث،‭ ‬لأنّنا‭ ‬ندفن‭ ‬يوميًا‭ ‬شبابًا‭ ‬ماتوا‭ ‬على‭ ‬الطرقات‭.‬

قلتُ‭ ‬للنّاس‭: ‬قيادة‭ ‬السيارة‭ ‬أمانة،‭ ‬ومن‭ ‬يستهتر‭ ‬بها‭ ‬كأنه‭ ‬يقتل‭ ‬عمدًا‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬يسمع؟‭!.‬

شريفة‭  – ‬ممرضة‭ ‬في‭ ‬طوارئ‭ ‬مستشفى‭ ‬

أصعب‭ ‬لحظة‭ ‬لما‭ ‬تدخل‭ ‬أم‭ ‬تصرخ‭ ‬على‭ ‬جثة‭ ‬ولدها،‭ ‬أو‭ ‬لما‭ ‬نسحب‭ ‬طفلة‭ ‬من‭ ‬حضن‭ ‬أمها‭ ‬لأنها‭ ‬ماتت‭.‬

الحوادث‭ ‬ما‭ ‬تقتلش‭ ‬بس‭ ‬أجساد،‭ ‬تقتل‭ ‬قلوبًا‭ ‬وأرواحًا،‭ ‬وتترك‭ ‬حزنًا‭ ‬ما‭ ‬يتنساش‮»‬‭. ‬

فما‭ ‬بين‭ ‬صوت‭ ‬صفارات‭ ‬الإسعاف،‭ ‬ودموع‭ ‬الأمهات،‭ ‬وصور‭ ‬الضحايا‭ ‬المتناثرة‭ ‬على‭ ‬الإسفلت،‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬الأكثر‭ ‬إيلامًا‭: ‬لماذا‭ ‬تحوّلتْ‭ ‬طرقاتنا‭ ‬إلى‭ ‬مصائد‭ ‬موت؟‭ ‬لماذا‭ ‬يُقتل‭ ‬الليبي‭ ‬يوميًا‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬حرب،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬اشتباك،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عمل،‭ ‬أو‭ ‬عودة‭ ‬من‭ ‬المدرسة،‭ ‬أو‭ ‬زيارة‭ ‬عائلية؟

القصص‭ ‬التي‭ ‬رصدناها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاستطلاع‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬إلا‭ ‬عينة‭ ‬بسيطة‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬مرعب‭ ‬يتكرّر‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬الليبية‭. ‬مشهد‭ ‬يتغذى‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬القانون،‭ ‬وتهالك‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬والقيادة‭ ‬المتهورة،‭ ‬واللامبالاة‭ ‬المزمنة،‭ ‬وكأن‭ ‬الأرواح‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭.‬

كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬دولة‭ ‬تسعى‭ ‬للاستقرار‭ ‬والنهوض،‭ ‬بينما‭ ‬آلاف‭ ‬الأرواح‭ ‬تُزهق‭ ‬على‭ ‬طرق‭ ‬مهترئة،‭ ‬لا‭ ‬إنارة‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬إشارات،‭ ‬ولا‭ ‬رادارات،‭ ‬ولا‭ ‬صيانة‭ ‬دورية؟

كيف‭ ‬يُسمح‭ ‬لأطفال‭ ‬دون‭ ‬السن‭ ‬القانوني‭ ‬بقيادة‭ ‬سيارات،‭ ‬ويتحوّل‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬إلى‭ ‬رفيق‭ ‬السائق‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الطريق؟‭.‬

كيف‭ ‬يُصاب‭ ‬شابٌ‭ ‬بالشلل،‭ ‬أو‭ ‬تُبتر‭ ‬أطرافه،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬يسانده‭ ‬طبيًا،‭ ‬أو‭ ‬قانونيًا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬معنويًا؟

إننا‭ ‬أمام‭ ‬أزمة‭ ‬ليستْ‭ ‬فقط‭ ‬مرورية،‭ ‬بل‭ ‬أزمة‭ ‬أخلاقية‭ ‬ومجتمعية،‭ ‬تتطلب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مسؤول‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬المرآة،‭ ‬ويتحمل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭. ‬الجهات‭ ‬المعنية‭  ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية‭ ‬إلى‭ ‬البلديات‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى