إن شذرات انطونيو بورتشيا المحكمة والمتقشفة هي دليلٌ صارمٌ على شقاء حياته في صغره، حيث لا وقت للكلام الزائد أمام قسوة الصمت والأعمال الشاقة، ولعل عمله لفترة ليست بقصير في حياكة سلاسل السفن بالميناء ليعول إخوته الستة علمته كيف يتعامل مع الصلابة المبالغ فيها للحديد، وهو معدنٌ يمتلك رنة مقتضبة، وكل الضجيج الذي يخرج منه هو غير مسؤول عنه لأنه ارتداد صوتي يخلفه المكان وليس الحديد نفسه، فبورتشيا بطريقة ما يجيد ايقاف الزمن داخل جملته، وهو كمن يختار شمس الظهيرة ليلقي بشذرته على قارعة الطريق في الوقت الذي تتوقف أن يكون للأشياء ظلال، هكذا يفرغ بورتشيا جملته من أي تهيئات، أو فراغات مفزعة قد تسبب الهشاشة ،فالمهم في الجملة كما في السلاسل الحديدية هو الصمود ،والصمود هنا لا علاقة له بالأبدية أو الخلود ،كما لا علاقة له بالأمل أيضا ،فهذا العجوز الطيب العاشق للأزهار وتلميذها الوفي، يقول : لا علاقة للأزهار بالأمل، فالأمل غد، والأزهار لا غد لها. هكذا يغلف «بورتشيا» لطافة جمله بقشرة صلبة يصعب معرفة الاتجاه الذي تشير اليه مع تحكم مدهش بالزمن داخل لغته،
لقد فتن «بورتشيا» المتواضع العديد من كبار الأدب مثل )اندري بروتون، وبورخيس( .. وربما ابراهيم الكوني نفسه كتب «نواميسه»، وهو متأثر بطريقة بورتشيا في كتابة شذراته في كتابه الرائع )أصوات(، وهنا جملة من جمل «بورتشيا» الكثيرة التي ربما نرى فيها جزءًا من طريقة الكوني..
)أكانت لتوجد هذه الحاجة المحمومة للبحث، لو أن الموجود كان موجوداً؟( من قرأوا للكوني يعرفون هذه الطريقة تمامًا، الجملة الاستفهامية التي تحمل اجابة محدَّدة مع سخرية التكرار .
ولا بد أن أشيد هنا بالترجمة الرائعة لأحمد لوغليمي التي تعاملت باحترافية مع الزمن وحافظت على الشذرات طازجة كل هذا الوقت.