
في عالمٍ يتغيّر بسرعة، حيث أصبحت التكنولوجيا هي سيد الموقف، والعمل يأخذ جلّ الوقت، والضغوط النفسية والاقتصادية تُطارد الأفراد من كل جانب، يقف سؤال كبير يفرض نفسه:
أين موقع الأسرة اليوم؟
هل ما زالت تقوم بدورها كما كانت في الماضي، حين كانت الحضن الدافئ والمدرسة الأولى والقلب الذي يحتضن الجميع؟ أم أن الأسرة فقدت بريقها وسط دوامة الحياة الحديثة؟
لم تعد الأسرة كما كانت؛ في الماضي كانت «الأسرة الممتدة» تضم الجد والجدة والأبناء والأحفاد، وكان البيت يعجّ بالضحكات والحكايات والنصائح، وكان الكل يشعر بالانتماء والدفء. أما اليوم، في زمن «الأسرة النووية»، أصبح كل فرد يعيش في عالمه الخاص: هواتف ذكية، شاشات مضيئة، تواصل افتراضي، وغياب شبه تام للحوار الحقيقي.
ومع هذا التحوَّل، برزت تساؤلات جديدة:
هل ما زال الأبوان قادرين على غرس القيم في أبنائهم؟
هل ما زالت الروابط الأسرية متينة كما كانت؟
وهل التغيير الذي طرأ على الأسرة جعل المجتمع أقوى… أم أضعف؟
في هذا الاستطلاع، نسلّط الضوء على دور الأسرة وتأثيرها في تكوين الفرد والمجتمع، ونسعى لاكتشاف كيف ينعكس هذا الدور سلبًا أو إيجابًا على سلوك الأفراد، وتماسك المجتمعات، ومستقبل الأجيال القادمة.
انطلقنا بين الناس، واستمعنا إلى آراء مختصين، وأولياء أمور، وشباب، وباحثين اجتماعيين، لنرسم معًا صورة واقعية للأسرة بين الماضي والحاضر، ونحاول استشراف مستقبلها.
الخبيرة الاجتماعية د. هنادي التاجوري :
الأسرة هي المصنع الحقيقي للإنسان، منها يخرج الفرد إمّا صالحًا يبني مجتمعه، أو مضطربًا يهدمه دون وعي.
للأسف، ضعف الترابط الأسري في السنوات الأخيرة بسبب انشغال الأهل وغياب الحوار أدى إلى تزايد حالات القلق والاكتئاب بين الشباب، وفقدان الهوية والانتماء.
التغيير في الأسرة انعكس مباشرة على المجتمع، فالتربية لم تعد كافية، والمسؤوليات لم تعد مشتركة كما كانت.”
رأي المربية الأستاذة سميرة المجدوب:
زمان كانت الأسرة تربي قبل أن تعلّم، وكان الأب والأم قدوة لأبنائهم في كل شيء.
اليوم نرى أولياء أمور يسلمون أبناءهم للتكنولوجيا، ويغيب دورهم الحقيقي في المراقبة والتوجيه.
التربية القديمة رغم بساطتها كانت أقوى لأنها كانت تقوم على الحب والحزم والقدوة الحسنة.
الأب عبد المنعم الغرياني 45 عامًا:
أعترف أنني أقضي وقتًا طويلًا في العمل، وأحيانًا أعود منهكًا لا أجد طاقة للجلوس مع أبنائي.
لكنّي بدأتُ ألاحظ أن البعد العاطفي يولّد فجوة، فابني لا يكلّمني إلا عبر الرسائل، وأنا أخاف أن نفقد التواصل تمامًا إن لم نغيّر هذا الواقع.”
الأم منال عبد الله أم لثلاثة أطفال:
جيلنا يعيش صراعًا: نريد أن نربّي مثلما ربّانا أهلنا، لكننا نصطدم بعصرٍ مختلف تمامًا. ابني يقول لي: “ماما، كل أصدقائي عندهم حرية”، وأنا أخاف أن أشدّ عليه فيكرهني، أو أتركه فينحرف.
أحيانًا أشعر أن التربية في هذا الزمن تحتاج صبرًا وفهمًا أكثر من أي وقت مضى.
الطالب الجامعي محمد 21 سنة:
أنا أحب عائلتي، لكنّي أشعر أننا نعيش في جزر متفرقة.
كل واحد مشغول بجهازه أو عمله، لا نتكلم كثيرًا، ولا نخرج معًا كما كنا أطفالًا.
أحس أن العلاقة بيننا أصبحت رسمية أكثر منها عاطفية.”
الطالبة سمية 19 سنة:
في طفولتي، كانت أمي تجلس معي وتقرأ لي القصص وتعلّمني الدعاء، أما اليوم فهي مشغولة جدًا بالعمل والهاتف.
أحيانًا أشتاق لأيام كنا نجتمع حول المائدة ونضحك، لكن تلك الأيام اختفت.
التكنولوجيا قرّبتنا من البعيد، لكنها فرّقتنا عن القريب. الطبيب النفسي د. ياسين عبداللطيف:
”كثير من مشكلات الشباب اليوم من انطواء، وانحراف، وقلق تعود إلى غياب الحاضن الأسري المتماسك.
الطفل الذي لا يجد الأمان والاحتواء في بيته سيبحث عنه في الخارج، وقد يجده في أماكن غير آمنة.
الأسرة التي لا تحاور أبناءها تفقد تأثيرها تدريجيًا، وتترك فراغًا تملؤه وسائل التواصل أو أصدقاء السوء.”
الحاجة شريفة 70 عامًا:
يا بنتي، زمان كانت العيلة وحدة، الكل يسأل عن الكل، والقلوب متصلة.
اليوم الكل مشغول، ما عاد حدّ يسمع حدّ. كنا نعيش ببساطة لكن بمحبة، أما اليوم فيعيشون برفاهية ولكن بلا دفء.