اجتماعي

بين نار الجمعية ولهيب المصرف

فايزة العجيلي

كان‭ ‬يا‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬الليبي‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الأحلام،‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬شاب‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬مرعي‮»‬،‭ ‬شاب‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر‭ ‬وعجز‭ ‬الأربعين‭. ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬إلا‭ ‬مرتبًا‭ ‬نحيفًا‭ ‬مثل‭: ‬ميزانية‭ ‬الثقافة،‭ ‬وحلمًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬مثل‭ : ‬سعر‭ ‬البنزين‭ ‬أيام‭ ‬الربيع‭.‬

‮«‬مرعي‮»‬،‭ ‬ككل‭ ‬شباب‭ ‬ليبيا،‭ ‬يحلم‭ ‬بسيارة‭. ‬مش‭ ‬‮«‬بي‭ ‬إم‭ ‬ولا‭ ‬تويوتا‮»‬،‭ ‬لا‭… ‬أي‭ ‬حاجة‭ ‬تمشي،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬داتسون‮»‬‭ ‬موديل‭ ‬1983‭ ‬طالما‭ ‬فيها‭ ‬دريكسيون‭ ‬ومراية‭ ‬تكشف‭ ‬له‭ ‬وجهه‭ ‬المتعب‭.‬

لكن‭ ‬المشكلة‭ ‬أن‭ ‬سعر‭ ‬السيارة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬اليوم‭ ‬بيساوي‭ ‬نصف‭ ‬حق‭ ‬شقة،‭ ‬والنصف‭ ‬الثاني‭ ‬يا‭ ‬إما‭ ‬مربوط‭ ‬بجمعية‭ ‬تديرها‭ ‬‮«‬أم‭ ‬مرعي‮»‬،‭ ‬وتستلم‭ ‬فيها‭ ‬القسط‭ ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬ينزل‭ ‬المرتب،‭ ‬أو‭ ‬يتجه‭ ‬للمصرف‭ ‬ويقع‭ ‬في‭ ‬حبائل‭ ‬‮«‬المرابحة‭ ‬الإسلامية‮»‬‭ ‬اللي‭ ‬طلعوا‭ ‬فيها‭ ‬فتوى،‭ ‬وقالوا‭ ‬إنها‭ ‬حلال،‭ ‬بس‭ ‬حسابه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يشوف‭ ‬الخصم‭ ‬يصيح‭ ‬‮«‬حرام‭ ‬عليكم‭..!!‬‮»‬‭.‬

‮«‬مرعي‮»‬‭ ‬محتار‭ ‬الجمعية‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد،‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬العزوبية‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬الزهايمر،‭ ‬وإذا‭ ‬دخل‭ ‬فيها‭ ‬حيضيع‭ ‬عمره‭ ‬وهو‭ ‬يدفع‭ ‬ومش‭ ‬عارف‭ ‬السيارة‭ ‬توصل‭ ‬قبله،‭ ‬وإللي‭ ‬قبلها،‭ ‬وإذا‭ ‬قرَّر‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬خط‭ ‬المصرف،‭ ‬يكتشف‭ ‬أن‭ ‬المصرف‭ ‬عنده‭ ‬حب‭ ‬تملك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬العرسان‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬الصيف،‭ ‬يشتروا‭ ‬السيارة‭ ‬باسمه،‭ ‬ويمرّروها‭ ‬عليه‭ ‬بربح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللي‭ ‬يربحه‭ ‬الساحر‭ ‬في‭ ‬حفلة‭ ‬أطفال‭.‬

‭)‬يعني‭ ‬يا‭ ‬مرعي،‭ ‬تدفع‭ ‬دم‭ ‬قلبك‭ ‬لعشر‭ ‬سنين‭ ‬عشان‭ ‬تمشي‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬للمخبز؟‭!(‬،‭ ‬هكذا‭ ‬حدثه‭ ‬ضميره،‭ ‬لكن‭ ‬الضمير‭ ‬نفسه‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬حل‭.‬

وحتى‭ ‬لو‭ ‬ركب‭ ‬السيارة،‭ ‬فيه‭ ‬رعب‭ ‬ثاني‭ .. ‬الحوادث؟‭ ‬طريق‭ ‬الموت‭ ‬ما‭ ‬ترحمش،‭ ‬والمليشيات؟‭ ‬يمكن‭ ‬تشوف‭ ‬السيارة‭ ‬وتعجبهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صغارهم،‭ ‬فيخطفوها‭. ‬ويقولوله‭ : ‬‭)‬أعطني‭ ‬مفاتيحها،‭ ‬الله‭ ‬غالب،‭ ‬نحن‭ ‬نحتاجها‭ ‬في‭ ‬الجبهة‭(‬‭.. ‬جبهة‭ ‬وين؟‭ ‬اللّه‭ ‬أعلم،‭ ‬يمكن‭ ‬جبهة‭ ‬التنزه‭ ‬في‭ ‬الظهرة‭.‬

‮«‬مرعي‮»‬‭ ‬يقعد‭ ‬بين‭ ‬نار‭ ‬الجمعية،‭ ‬ولهيب‭ ‬المصرف،‭ ‬وبين‭ ‬رعب‭ ‬الطريق،‭ ‬وخوف‭ ‬المليشيا،‭ ‬ومش‭ ‬عارف‭: ‬يشري؟‭ ‬وإللى‭ ‬يقعد‭ ‬على‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬رجليه‭ ‬حتى‭ ‬تتكرم‭ ‬عليه‭ ‬الدولة‭ ‬وتجيب‭ ‬مواصلات؟‭ ‬بس‭ ‬الدولة‭ ‬مشغولة‭ ‬بإعادة‭ ‬إعمار‭ ‬اللاشيء،‭ ‬والوزارات‭ ‬تتنافس‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬يصدر‭ ‬أكثر‭ ‬وعودًا‭.‬

والغريب،‭ ‬إنه‭ ‬لو‭ ‬فكرت‭ ‬تسأل‭ ‬‮«‬مرعي‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭: ‬‮«‬شن‭ ‬حلمك؟‮»‬،‭ ‬حيقول‭ ‬لكَ‭: ‬‮«‬سيارة‭ ‬يا‭ ‬خوي،‭ ‬نمشي‭ ‬بيها‭ ‬ونرفع‭ ‬أمي‭ ‬للسوق‮»‬‭.‬

يا‭ ‬‮«‬مرعي‮»‬،‭ ‬يا‭ ‬مظلوم‭! ‬صار‭ ‬المشوار‭ ‬للسوق‭ ‬حلم‭ ‬وطني،‭ ‬والسيارة‭ ‬قضية‭ ‬رأي‭ ‬عام‭.‬

وفي‭ ‬النهاية،‭ ‬يبقى‭ ‬‮«‬مرعي‮»‬‭ ‬واقفًا‭ ‬على‭ ‬الرصيف،‭ ‬يتأمل‭ ‬سيارة‭ ‬مستعملة‭ ‬تمر‭ ‬من‭ ‬أمامه،‭ ‬فيتنهد‭ ‬ويقول‭: ‬‭)‬يا‭ ‬ليتني‭ ‬كنتُ‭ ‬إطارًا‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬إسعاف‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬نمشي‭ ‬ببلاش‭(‬‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى