رتوش

تدريجــــــة نوبـــــة عشق لغرناطـــــــة

زكريا العنقودي

المالوفُ‭ ‬موكبٌ‭ ‬أُوبرالي‭ ‬مهيبٌ‭ ‬يمر‭ ‬راجلًا‭ ‬يزفُ‭ ‬به‭ ‬الأهالي‭ ‬سلاطين‭ ‬أعراسهم‭.‬

سماه‭ ‬الطرابلسية‭ ‬بشكله‭ ‬هذا‭ ‬بـ‭)‬التدريجة‭(.. ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬كانوا‭ ‬يرفعون‭ ‬الطارات‭ ‬عاليًا‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬فرحهم‭ .‬

هذا‭ ‬الفن‭ ‬حفظته‭ ‬الزوايا،‭ ‬والتكايا‭ ‬بطرابلس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اضافته‭ ‬ضمن‭ ‬طقوسها‭ ‬كعامل‭ ‬لجذب‭ ‬الشباب‭ ‬حين‭ ‬عزفوا‭ ‬عن‭ ‬ارتيادها‭ ‬قديمًا‭.‬

لهذا‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬إلا‭ ‬بزوايا‭ ‬طرابلس،‭ ‬ونما‭ ‬وترعرع‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬يُوزن‭ ‬بالذهب‭ .. ‬ولأنه‭ ‬فن‭ ‬النَّاس‭ ‬منذ‭ ‬القديم‭ ‬لحقتْ‭ ‬به‭ ‬الأساطير‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬إنّ‭ )‬إيقاع‭ ‬‮«‬المحير‮»‬‭ ‬حين‭ ‬تسمعه‭ ‬الجان‭ ‬تفقد‭ ‬صوابها؛‭ ‬فتنزل‭ ‬من‭ ‬عليائها،‭ ‬وتهيم‭ ‬خلف‭ ‬رِتمه‭ ‬كالدراويش‭!!!( .‬

فن‭ ‬المالوف‭ .. ‬هو‭ ‬فن‭ ‬الناس‭ ‬ورثوه‭ ‬أبًا‭ ‬عن‭ ‬جد‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬فنًا‭ ‬للرجال‭ ‬فقط؛‭ ‬فالطرابلسيات‭ ‬اللواتي‭ ‬يوقدن‭ ‬المباخر،‭ ‬وينثرن‭ ‬الزهر‭ ‬من‭ )‬مشربيات‭ ‬البيوت‭( ‬فوق‭ ‬رؤوس‭ ‬كورال‭ ‬هذه‭ ‬الاوبرا‭ ‬الراجلة‭ ‬يردَّدن‭ ‬بدورهن‭ ‬خلفها‭ )‬ياغزالا‭ ‬في‭ ‬البهاءِ‭ ‬ما‭ ‬اجملكَ‭ ..‬علموك‭ ‬الهجرَ‭ ‬حتي‭ ‬بدلك‭( .‬

المالوف‭ ‬وبطرابلس‭ ‬كما‭ )‬غاليري‭ ‬اكاكوس‭( ‬بالنسبة‭ ‬لليبيا‭ ‬كلها‭ .. ‬فنٌ‭ ‬ليبي‭ ‬أصيل،ٌ‭ ‬وجماله‭ ‬في‭ ‬تنوع‭ ‬مشاربه‭ ‬من‭ ‬الأصل‭ ‬الأندلسي‭ ‬إلى‭ ‬تمازجه‭ ‬باللهجة،‭ ‬وبالنغم‭ ‬المحلي‭ ‬وانتهاء‭ ‬إلى‭ ‬امتداده‭ ‬المشارقي‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الاناضول‭ .‬

‭ ‬بهذا‭ ‬المزيج‭ ‬تميز‭ ‬ونال‭ ‬الحظوة‭ ‬عربيًا،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المهرجانات،‭ ‬والمشاركات‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬تُعنى‭ ‬بالتراث‭ ‬وفن‭ ‬المالوف‭ ‬والموشحات،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يصل‭ ‬لهذه‭ ‬المكانة‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬غادر‭ ‬قلوب‭ ‬النَّاس،‭ ‬وأعرافهم،‭ ‬وعاداتهم‭ ‬بل‭ ‬ويومياتهم‭ ‬بل‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليجتز‭ ‬أعتاب‭ ‬طرابلس‭ ‬إنّ‭ ‬عُلِبَ‭ ‬بـ«تلفاز‮»‬‭ ‬أو‭ ‬جُِّّدَ‭ ‬بـ«مذياع‮»‬‭ .. ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬وبتعمد‭ ‬واضح‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬له‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التبرير‭ ‬أو‭ ‬التفسير‭ ‬والرَّد‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ .‬

‭ )‬لما‭ ‬ينحسر‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬أصيل‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬مكانه‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬زواياهم،‭ ‬وفي‭ ‬شوارعهم،‭ ‬وقلوبهم‭ ‬ليتمدَّد‭ ‬وبفتور‭ ‬وبرود‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬ولغرض‭ ‬يفهم‭ ‬الجميع‭ ‬أنه‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الدعاية‭ ‬السياسية،‭ ‬والتي‭ ‬تستعمل‭ ‬لها‭ ‬الآن‭ ‬عُلب‭ ‬الراديو؟؟‭(.‬

يقول‭ ‬دعبلُ‭ ‬الخزاعي‭ :‬

‭)‬منازلُ‭ ‬آيات‭ ‬خلتْ‭ ‬من‭ ‬تلاوة،‭ ‬ومنزل‭ ‬وحي‭ ‬مقفر‭ ‬العرصات‭(.‬

فها‭ ‬هي‭ ‬أزقة‭ ‬طرابلس،‭ ‬وأحياؤها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتطيب‭ ‬بمرور‭ ‬النوبة‭ ‬ويطرب‭ ‬أهلها‭ ‬لتنوع‭ ‬ايقاعاتها‭ ‬وبوحدة‭ ‬وجهورية‭ ‬صوت‭ ‬منشديها‭ ‬الذين‭ ‬يخلعون‭ )‬الشاشية‭ ‬والبسكل‭( ‬لينالهم‭ ‬نصيبٌ‭ ‬من‭ ‬­­­­­مرشّات‭ ‬الزهر،‭ ‬والمباخر،‭ ‬ولتتعطر‭ ‬جباههم،‭ ‬ويتعطر‭ ‬أيضًا‭ ‬مرورها‭ ‬المهيب‭ .. ‬والصبايا‭ ‬اللواتي‭ ‬كنْ‭ ‬يردَّدن‭ ‬مع‭ ‬المنشدين‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬حجاب‭ ‬ينثرن‭ ‬الفل‭ ‬والياسمين‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬المارين،‭ ‬وقلوبهن‭ ‬تخفق‭ ‬بالدعاء‭ ‬بقرب‭ ‬النصيب‭ .. ‬ها‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬المهيب‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬الهاوية‭ ‬بنظام‭ ‬التنقيط‭ ‬رويدًا‭ ‬رويدًا‭ .. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الأمرَ‭ ‬وكأنه‭ ‬ممنهج‭ ‬وبدأ‭ ‬منذ‭ ‬سنوات؛‭ ‬لذا‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬فالمشهد‭ ‬يكاد‭ ‬يقفل‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬الباب‭ ‬الآن‭ .. ‬لتبقى‭ ‬طرابلس‭ ‬خاوية‭ ‬على‭ ‬عروشها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الشاردين‭ ‬خلف‭ ‬قوتهم،‭ ‬وعيالهم‭ ‬كل‭ ‬بيده‭ ‬ملفٌ،‭ ‬ويسعى‭ ‬وراء‭ ‬لا‭ ‬شي‭ )‬وكأن‭ ‬على‭ ‬رؤوسهم‭ ‬الطير‭( ‬بل‭ ‬وكأنهم‭ ‬رفعوا‭ ‬أياديهم‭ ‬عن‭ ‬الفرح،‭ ‬واختاروا‭ ‬التقاعد‭ ‬المبكر‭ ‬عن‭ ‬البهجة،‭ ‬واضربوا‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬الهمس‭ ‬بأبجد‭ ‬هوز‭ ‬نوبات‭ ‬المالوف‭ )‬ألف‭ ‬يا‭ ‬سلطاني‭ ‬والهجران‭ ‬كواني‭ ..‬آليف‭(.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬بدأ‭ ‬بالتلاشي،‭ ‬والانحسار،‭ ‬واختفت‭ ‬نوبات‭ ‬‮«‬عشق‭ ‬غرناطة‮»‬‭ ‬من‭ ‬شوارع‭ ‬طرابلس،‭ ‬وماتت‭ ‬حماماتها‭ ‬الزواجل‭ ‬وانقطع‭ ‬حبل‭ ‬وصالها‭ ‬بالأندلسي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى