ثقافة

جثـثٌ تتـكلمُ

* عائشة الأصفر

دورة‭ ‬حياة‭ ‬الشعوب‭ ‬تبدأ‭ ‬متشابهة‭ ‬وإن‭ ‬اختلف‭ ‬توقيت‭ ‬بداياتها‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬تكون‭ ‬بمقدرات‮ ‬‭ ‬بدائية‭ ‬وساذجة،‭ ‬ليس‭ ‬أمامها‭ ‬سوى‭ ‬الطبيعة‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬أنها‭ ‬ندٌ‮ ‬‭ ‬صعبٌ‭ ‬ومعقدٌ‭ ‬مذ‭ ‬أجبرته‭ ‬على‭ ‬تعظيم‭ ‬ظواهرها‭ ‬فقدّس‭ ‬الشمس‭ ‬والنَّار،‭ ‬ووجد‭ ‬في‭ ‬الأسطورة‮ ‬‭ ‬تبريرًا‭ ‬وملاذًا‭ ‬لأسئلته‭ ‬وحيرته‭ ‬التي‭ ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬الآلهة‭ ‬وأنصاف‭ ‬الآلهة‭ ‬من‭ ‬الحجر،‭ ‬ومن‭ ‬البشر‭ ‬ونحت‭ ‬الأصنام‭ ‬ليستجديها،‮ ‬تخبرنا‭ ‬الشواهد‭ ‬أن‭ ‬الأذكياء‭ ‬هم‭ ‬الأوصياء‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬القطعان،‮ ‬‭ ‬مستغلين‭ ‬الوتر‭ ‬الحساس‭ ‬فيهم‭ ‬فكان‭ ‬الجوع‭ ‬والخوف‭ ‬والتغيب،‭ ‬وكان‭ ‬تغلغل‭ ‬مخدر‭ ‬الدين‭ ‬نقطة‭ ‬تقاطعت‭ ‬فيها‭ ‬بدايات‭ ‬الشعوب‭ ‬البسيطة،‭ ‬حكمٓ‭ ‬زرادشت‭ ‬الشرق‭ ‬بالألوهية‭ ‬وسطوة‭ ‬القوة‭ ‬دون‭ ‬نبوّة،‭ ‬وحكم‭ ‬البابا‭ ‬اوروبا‭ ‬بصكوك‭ ‬الغفران،‭ ‬وتعددت‭ ‬الفرق‭ ‬والمذاهب‭ ‬فأضعفت‭ ‬المسلمين‭ ‬والعرب‭ ‬بعد‭ ‬نهضة؟‭ ‬ضرب‭ ‬الأذكياء‭ ‬بذكاء‭ ‬وظلوا‭ ‬أولياء‭ ‬القُصّر‭ ‬وأوهموهم‭ ‬بالوصاية‭ ‬والحماية‭ ‬وبالثورات‭. ‬ويطل‭ ‬علينا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أنقاض‭ ‬الأحداث‭ ‬سؤال‭: ‬لِمَ‭ ‬تغير‭ ‬العالم‭ ‬بحكمائه‭ ‬نحو‭ ‬النهضة‭ ‬وتخلفت‭ ‬شعوبنا‭ ‬بعد‭ ‬نهضة؟‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬فيها‭ ‬ولد‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرنًا‭ ‬ولم‭ ‬يكبر‭.. ‬قُذف‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬ملح‭ ‬وبحيرات‭ ‬نفط‭ ‬وثورة‭ ‬معلوماتية،‭ ‬فكانت‭ ‬الطفرة‭ ‬التي‭ ‬أسقطتهم‭ ‬في‭ ‬هوة‭ ‬ثقافية‭ ‬لم‭ ‬يخرجوا‭ ‬منها‭.. ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬تخلق‭ ‬الآلهة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬وتبرر‭ ‬الزلازل‭ ‬بالأسطورة،‭ ‬وتنتظر‭ ‬مهدي‭ ‬الخلاص‭.. ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬ترفع‭ ‬المولات‭ ‬وتقلص‭ ‬المناهج،‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬كذبة،‭ ‬إننا‭ ‬لم‭ ‬نتغير‭ ‬يوما،‭ ‬وإن‭ ‬نجاحاتنا‭ ‬فردية‭ ‬ونبوغنا‭ ‬فردي،‭ ‬وانتصاراتنا‭ ‬الوهمية‭ ‬مسؤولة‭ ‬عنها‭ ‬قيادات‭ ‬فردية،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬حدث‭ ‬صدفة‭ ‬وسط‭ ‬ارتباك‭ ‬وتخلف‭ ‬فكري،‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬مذ‭ ‬صار‭ ‬رهين‭ ‬الغٓيرية،‭ ‬والانطياع‭ ‬للآخ،‭ ‬سواءٌ‭ ‬أكان‭ ‬من‭ ‬جلدته‭ ‬أم‭ ‬غريبًا،‭ ‬فكر‭ ‬تغلب‭ ‬عليه‭ ‬الغوغائية،‮ ‬‭ ‬والحكم‭ ‬على‭ ‬الأمور‮ ‬‭ ‬عنده‭ ‬هوائية‭. ‬الفكر‭ ‬مثل‭ ‬القيم‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ،‭ ‬إدارة‭ ‬الأسرة‭ ‬نموذج‭ ‬مصغر‭ ‬من‭ ‬الأمة‭ ‬والدولة،‭ ‬وخطوات‭ ‬التفكير‮ ‬‭ ‬العقيم‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬عند‭ ‬الطبيب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬السطر‭ ‬ولو‭ ‬خرجت‭ ‬أعراض‭ ‬المرض‭ ‬عنه،‭ ‬وعند‭ ‬بائع‭ ‬السندوتشات‭ ‬الذي‮ ‬‭ ‬لا‭ ‬يستوعب‭ ‬أن‭ ‬يحذف‭ ‬نكهة‭ ‬لا‭ ‬تعجب‭ ‬الزبون‭ ‬لأنه‭ ‬هكذا‭ ‬تعلمها،‭ ‬مجتمعات‭ ‬رفعت‭ ‬راية‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬التفكير‭ ‬المنطقي‭ ‬والجاد،‮ ‬‭ ‬كرسي‭ ‬السلطة‭ ‬يؤخذ‭ ‬بالسلاح،‭ ‬أما‭ ‬الثورة‮ ‬‭ ‬فتتمظهر‭ ‬في‭ ‬هدم‭ ‬المنشآت‭ ‬ونبش‭ ‬المقابر‮ ‬‭ ‬وملء‭ ‬السجون،‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬تعيش‭ ‬فراغا‭ ‬فكريا‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة،‮ ‬‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬شعوب‭ ‬بطونها‭ ‬تفيض‭ ‬بالكلام‭ ‬ولا‭ ‬تعمل‭ ‬حسابا‭ ‬للوقت،‭ ‬ولذا‭ ‬هي‭ ‬سوق‭ “‬للسوشيال‭ ‬ميديا‭” ‬بكل‭ ‬أنواعها،‭ ‬وقبلها‭ ‬سوق‭ ‬لكل‭ ‬ترهات‭ ‬فكر‭ ‬الأذكياء،‭ ‬وعملائهم‭ ‬الذين‭ ‬نجوا‭ ‬برؤوسهم‭ ‬وتركوا‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬مشغولة‭ ‬بطول‭ ‬السراويل،‭ ‬تضرب‭ ‬وجوهها‭ ‬بالسلاسل،‭ ‬وتفجر‭ ‬أجسادها‭ ‬لأجل‭ ‬حور‭ ‬العين،‭ ‬ويقف‭ ‬الإنسان‭ ‬يتسول‭ ‬أمام‭ ‬داره‭ ‬ما‭ ‬أُخذ‭ ‬عنوة‭ ‬من‭ ‬عقر‭ ‬داره،‭ ‬فكر‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬حبيس‭ ‬عقل‭ ‬مربوط‭ ‬في‭ ‬طلحة‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرنا،‭ ‬فيها‭ ‬عُصب‭ ‬ولُقن‭ ‬وأُطلق‭ ‬أعمى،‭ ‬فركب‭ ‬التغيير‭ ‬الحضاري‭ ‬أعمى،‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬من‭ ‬الداخل،‮ ‬‭ ‬يتعثر‭ ‬في‭ ‬الحداثة‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬صدمة‭ ‬الحضارة‭ ‬ومركّب‭ ‬النقص‭ ‬وعقدة‭ ‬الأجنبي،‮ ‬‭ ‬إنسان‭ ‬فقد‭ ‬الثقة‭ ‬بقدراته‭ ‬وامكاناته‭ ‬العقلية‭ ‬المجمدة‭ ‬والخارجة‭ ‬عن‭ ‬الخدمة‭ ‬حتى‭ ‬انتهت‭ ‬صلاحيتها،‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬ذاك‭ ‬المأزوم،‭ ‬استبدل‭ ‬فقط‭ ‬ألقابه‭ ‬ومنازله‭ ‬وقصور‭ ‬سلاطينه،‭ ‬لا‭ ‬زال‭ ‬بيننا‭ ‬ابن‭ ‬الغزو‭ ‬والسبي‭ ‬والثارات،‮ ‬‭ ‬ابن‭ ‬شيوخ‭ ‬القبيلة‭ ‬والحكام‭ ‬المستبدين،‭ ‬ابن‭ ‬الزنزانة‭ ‬والعار‮ ‬‭ ‬وعذاب‭ ‬القبر،‭ ‬ابن‭ ‬الخصاء‭ ‬والبلاط‭ ‬والمدح‭ ‬والوشاية،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬محكوما‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬حاكما‭ ‬مشغولا‭ ‬بالتبعية‭ ‬خوفا‭ ‬وطمعا‭ ‬وتغييبا،‭ ‬فهل‭ ‬يستقل‭ ‬العقل‮ ‬‭ ‬ويضيء‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬حضور‭ *‬المناديب،‭ ‬وغياب‭ ‬الحرية‭ ‬والديمقراطية‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى