دورة حياة الشعوب تبدأ متشابهة وإن اختلف توقيت بداياتها التي في العادة تكون بمقدرات بدائية وساذجة، ليس أمامها سوى الطبيعة التي أثبتت أنها ندٌ صعبٌ ومعقدٌ مذ أجبرته على تعظيم ظواهرها فقدّس الشمس والنَّار، ووجد في الأسطورة تبريرًا وملاذًا لأسئلته وحيرته التي قادته إلى خلق الآلهة وأنصاف الآلهة من الحجر، ومن البشر ونحت الأصنام ليستجديها، تخبرنا الشواهد أن الأذكياء هم الأوصياء على بقية القطعان، مستغلين الوتر الحساس فيهم فكان الجوع والخوف والتغيب، وكان تغلغل مخدر الدين نقطة تقاطعت فيها بدايات الشعوب البسيطة، حكمٓ زرادشت الشرق بالألوهية وسطوة القوة دون نبوّة، وحكم البابا اوروبا بصكوك الغفران، وتعددت الفرق والمذاهب فأضعفت المسلمين والعرب بعد نهضة؟ ضرب الأذكياء بذكاء وظلوا أولياء القُصّر وأوهموهم بالوصاية والحماية وبالثورات. ويطل علينا اليوم من بين أنقاض الأحداث سؤال: لِمَ تغير العالم بحكمائه نحو النهضة وتخلفت شعوبنا بعد نهضة؟ كل واحد فيها ولد قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا ولم يكبر.. قُذف بهم في مدن ملح وبحيرات نفط وثورة معلوماتية، فكانت الطفرة التي أسقطتهم في هوة ثقافية لم يخرجوا منها.. ما زالت مجتمعاتنا تخلق الآلهة من البشر وتبرر الزلازل بالأسطورة، وتنتظر مهدي الخلاص.. ما زالت ترفع المولات وتقلص المناهج، التغيير في تاريخ هذه الشعوب كذبة، إننا لم نتغير يوما، وإن نجاحاتنا فردية ونبوغنا فردي، وانتصاراتنا الوهمية مسؤولة عنها قيادات فردية، وكل ذلك حدث صدفة وسط ارتباك وتخلف فكري، الفكر العربي مذ صار رهين الغٓيرية، والانطياع للآخ، سواءٌ أكان من جلدته أم غريبًا، فكر تغلب عليه الغوغائية، والحكم على الأمور عنده هوائية. الفكر مثل القيم لا يتجزأ، إدارة الأسرة نموذج مصغر من الأمة والدولة، وخطوات التفكير العقيم هي ذاتها عند الطبيب الذي لا يخرج عن السطر ولو خرجت أعراض المرض عنه، وعند بائع السندوتشات الذي لا يستوعب أن يحذف نكهة لا تعجب الزبون لأنه هكذا تعلمها، مجتمعات رفعت راية القطيعة مع التفكير المنطقي والجاد، كرسي السلطة يؤخذ بالسلاح، أما الثورة فتتمظهر في هدم المنشآت ونبش المقابر وملء السجون، ذلك أنها تعيش فراغا فكريا على جميع الأصعدة، هي نتاج شعوب بطونها تفيض بالكلام ولا تعمل حسابا للوقت، ولذا هي سوق “للسوشيال ميديا” بكل أنواعها، وقبلها سوق لكل ترهات فكر الأذكياء، وعملائهم الذين نجوا برؤوسهم وتركوا مجتمعاتهم مشغولة بطول السراويل، تضرب وجوهها بالسلاسل، وتفجر أجسادها لأجل حور العين، ويقف الإنسان يتسول أمام داره ما أُخذ عنوة من عقر داره، فكر الإنسان في هذه المجتمعات حبيس عقل مربوط في طلحة قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، فيها عُصب ولُقن وأُطلق أعمى، فركب التغيير الحضاري أعمى، الإنسان في المجتمعات العربية لم يتغير من الداخل، يتعثر في الحداثة وهو يحمل صدمة الحضارة ومركّب النقص وعقدة الأجنبي، إنسان فقد الثقة بقدراته وامكاناته العقلية المجمدة والخارجة عن الخدمة حتى انتهت صلاحيتها، لم يمت ذاك المأزوم، استبدل فقط ألقابه ومنازله وقصور سلاطينه، لا زال بيننا ابن الغزو والسبي والثارات، ابن شيوخ القبيلة والحكام المستبدين، ابن الزنزانة والعار وعذاب القبر، ابن الخصاء والبلاط والمدح والوشاية، ما زال محكوما كان أم حاكما مشغولا بالتبعية خوفا وطمعا وتغييبا، فهل يستقل العقل ويضيء الفكر في حضور *المناديب، وغياب الحرية والديمقراطية.