الفن «المرسكاوي» تراث موسيقي هاجر من ربوع الأندلس إلى ليبيا
هذا قول اختلفتْ فيه الآراء، و تنوعتْ حول الجذور الأولى لهذ الفن، وتتفق غالبيتها على أنه ظهر على يد )المورسكيين( الوافدين من الأندلس، بعد هجرتهم إلى شمال أفريقيا، حيث عاش جزء منهم في المدن الساحلية الليبية، وبعضهم عاش في مدينة مرزق، التي اجتمع فيها مزيج إنساني فريد من العرب والأمازيغ وحضارة وتراث أفريقيا، الوافد من الجنوب….
وهناك من أن هذا الفن نما ونشأ في مرزق، ومنها إلى كل الجنوب بداية، مثل هون وغات وسبها، وبعدها إلى مناطق ليبيا كافة.
بالرغم انه هناك خلاف على موطن التطور “المرسكاوي” تراث موسيقي هاجر من ربوع الأندلس إلى ليبيا….
ومن جانب آخر المرسكاوي قد درج عند العامة الليبيين على تسميته بأنه فناً منسوباً الى مرزق، ومن مرزق جاءت تسمية )مرزقاوي( بينما الحقيقة أنها تسمية تنتسب إلى )موريسكيو( الأندلس والدليل أن يهود بنغازي، هم أكثر من برع به في كامل برقة ….
وتمتاز أنماط الأغنية الليبية التراثية المرسكاوية بكمية هائلة من التنوع والخصوصية ويعد هذا التنوع في غالبه إلى تنوع الآلات الموسيقية المستخدمة وتنوع الأعراق والثانيات والثقافات لسكان البلد الواحد وامتزاجها مع بعضها بعضًا؛ حيث مثّل المرسكاوي امتزاجاً نموذجيًا بين الثقافات العربية والأمازيغية، والأفريقية ومع مرور الزمن بدأت الأغنية الليبية تتأثر بتطور الفن المغاربي الذي تأثر بدوره بالموسيقى الغربية، ولكن الأغنية الليبية الشعبية ظلت على حالها حتى الآن وظلت موجودة في المحافل والمناسبات الاجتماعية والدينية أيضاً، حيث ارتبطت الأغنية الشعبية..
جدل فيسبوكي
دار على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي المدة الماضية جدلاً ونقاشًا بين كتّاب وشعراء ومهتمين بتاريخ الفنون عن أصول الفن المرسكاوي هل هو ليبي خالص أم جاء وافدًا من الأندلس أم أنه مزيج من فنون وافدة واضافات محلية.
في مقال له بعنوان : )عيون التاباويات الحزينة( قدَّم الكاتب منصور بوشناف رؤيته ووجهة نظره في أصول فن المرسكاوي مستندًا على جذوة التفاعل كنتُ قد دخلتها في أحد أيام تسعينيات القرن الماضي مساء قادمًا من غات، والاكاكوس ورأسي يعج بقوافل الشرق، والغرب، والشمال والجنوب وحكايات التجار والدعاة والمستكشفين وسلاطين وأمراء حكموها والأقرب الى سمعي وروحي في تلك اللحظات كان )فن المرزكاوي( اعني بصمة مرزق المهمة في تاريخ ليبيا الثقافي ونمو هويتها الجامعة.
كنتُ مستفزًا بالكثير من الكلام عن فن المرزكاوي إذ ذهب البعض الى انه فن «مورسكي» خالص جاء من الاندلس، والمغرب لينتشر من مرزق الى بنغازي ثم الى ارجاء ليبيا وكل ذلك يضمر تلك العدمية التي امتاز بها الليبيون، وهم يتفحصون مقتنياتهم التاريخية والثقافية ولايرون ابعد من «الهنا والآن» .
ذلك الكلام يفترض أن مرزق وكل ليبيا كانت فارغة وكان انسانها متسمرًا لا يمارس اي شيء كأنه لم يكن يصطاد، ولا يزرع، ولا يبيع، ولا يشتري ولا يتناسل ولا يتعبد والأهم هنا لم يكن يغني ولا يرقص، ببساطة كان محنطًا ينتظر قدوم اولئك المورسكيين كي يعلموه الغناء وربما الحب وحتى التناسل ..
نظرية الليبيين الراسخة لقرون بفراغ هذه الجغرافيا بانتظار )الفنيقين والرومان والوندال والعرب( ليعمروها ويعلموا انسانها التدين والغناء والرقص والتجارة والزراعة والسباحة وركوب الخيل كان شيئًا مقززًا بالنسبة ليَّ وبعد تجوالي الطويل في ليبيا اكتشفتُ انه يعبر عن جهل واستلاب مرضي في الآخر بعيدًا عن الثثاقف والتفاعل الحضاري بين الشعوب عبر التاريخ .
كانتْ قوافل التجار القادمة إلى مرزق ومنذ قرون بعيدة وقبل سقوط الاندلس تحمل كما ظلت دائمًا البضائع وأيضا الفنون والمعتقدات وكان لا يسمح لتلك القوافل بالدخول الى مرزق الا بعد اجراءات وفق اعراف وقوانين سنها حكام وشيوخ مرزق مثل غيرهم من حكام وشيوخ محطات القوافل التي كانت مرزق من اهمها، اثناء تلك الايام والليالي التي تأخذها تلك الاجراءات كان تجار وخدم تلك القوافل يستريحون و ايضا يحتفلون يغنون ويرقصون، كل قافلة وفنون بلادها مما جعل من محطة ما قبل الدخول تلك ملتقى لفنون وايقاعات الجنوب والشمال والشرق، والغرب وكل ذلك يدخل بسلاسة ويسر الى وجدان مرزق ويمتزج بفنها الخاص، فنها المرزكاوي الاصيل لتعيد مرزق صياغته وفق ايقاعاتها ومقاماتها الخاصة بالضبط كما ستفعل بنغازي بالمرزكاوي فيما بعد ..
في «ليالي المرزكاوي» .. التي حضرتْ في مرزق لم يكن للتبو وفنونهم حضورٌ في كل ماغنته فرقة مرزق للفنون الشعبية، كانت فنونهم كفنون الطوارق في غدامس منفية خارج أسوار المدينة، ذلك الغياب لم يكن إلا غيابًا لفنون البدو الرُّحل التي ظلت تمثل فنون التبو خاصة، فنون القادرين على العدو السريع كما يقول «هيردوت» منذ خمسة وعشرين قرنًا من وصولي إلى مرزق، بالطبع سنجد لو فتشنا بحثًا بعض عناصر فنون التبو في فن المرزكاوي الذي صاغته مرزق على مهل شديد لقرون طويلة فلا اشك ابدا في ان تلك العيون، عيون التاباويات اللامعة ذكاءً وحزنًا، ورشاقة الغزلان التي يتنقلن بها بين السوق والكوخ لم تفعل فعلها في فن المرزكاوي الليبي الشامل للصحراء والبحر والريف والمدينة وحتى البادية رغم التجاهل والنكران الذي اظهره غالبية ان لم يكن جميع من درسوا فن المرزكاوي .
من هون إلى مرزق
ويرى الكاتب والشاعر عبدالوهاب قرينقو في معرض رده على الكاتب منصور بوشناف أن المرسكاوي.. فن غنائي موسيقي شعبي، جذوره في ربوع الجفرة تحديداً مدينة هون و سوكنة و ودان.
وقبل ثلاثة قرون ويزيد، كانت مرزق هي عاصمة إقليم فزان وشهدت هجرة الكثير إليها قادمين من الشمال خاصة من مدينة هون، حيث شكلوا نسبة لابأس بها من سكان مرزق إلى يومنا هذا.
ونقلوا فلكلورهم الغنائي كـ)السواقي والدبدابة والنخيخة والبروالي والعزف بآلات الموسيقى الشعبية كالطبل والمقرونة والدربوكة(.. وتمازج الفن الهوني مع تراث مرزق العاصمة.
ما يعني أن فن المرسكاوي ُلدَ في هون وجارتيها ثم انتقل إلى مرزق ومنها إلى بنغازي ليتطور هناك وينولد بالشكل الأكثر انتشارًا وبهاءً.. ما يعني أنه فن بنغازي وجذوره في هون والجيران.. لنصل لحقبة الخمسينيات والستينيات ثم السبعينيات حيث صارت الفنون الهونية والجفراوية عموماً تنتقل مباشرة من هون إلى بنغازي مباشرةً وإلى طرابلس أيضاً الأمثلة والشواهد كثيرة وموثقة.
معلومة بلا سند تاريخي
ومن جانبه يقول الكاتب عبدالوهاب عيسى في تعقيبه على كل من بوشناف قرينقو :
(يظن كل من قرينقو وبوشناف أن فن المرسكاوى ينحدر من مدينة مرزق ثم ينسبونها بعد ذلك الى الجفرة وهون والتبو و براك وسبها ..هكذا بكل بساطة، وبأن كلمة المرسكاوى ماهو الا تحريف لكلمة مرزقاوى. كمحاولة منهم لتجريد برقة من هويتها و تراثها الموسيقى ونسبها الى الجنوب .!!
وأوضح عبدالوهاب أن هذه المعلومة لا سند لها تاريخيا ولاحتى لغويا وكل ما يدعمها هو التشابه اللفظى بين مرسكاوى ومرزقاوى. وهذا غير منطقى، لأن تحريف القاف الى كاف لا يحدث اطلاقا فى لهجاتنا المحلية . إذا فما هو أصل المرسكاوى؟
ويضيف عبدالوهاب : هناك اختلاف كبير وفرق شاسع مابين الغناء والموسيقى المرسكاوي في برقة وخاصة في بنغازي ودرنة ( وهي مناطق استقر فيها الاندلسيين والموريسكيين) وبين اغاني وموسيقى مرزق وسبها وبراك والشاطيء
الموسيقى وأغاني المرسكاوي في برقة يتميز بوجود الموال والتبرويلة (تحول الوصلة الى ايقاع راقص) بينما لحن مرزق يخلو منهما تماما ، بل يتميز بالحان وايقاع سريع يشبه الايقاع الافريقي
هناك اغنية للفنان الكبير ابراهيم الصافى، “وين ما العين تشوف ضاوي خده”. ذهلت من مدى التشابه بين لحن الأغنية، وبين الموشحات الأندلسية، عندها فكرتُ فى أن هذا اللحن لا بد أن يكون مرتبطًا بطريقة ما بالأندلس.
فن المألوف المنتشر فى شمال أفريقيا والمعروف بأصوله الأندلسية. وإذا تذكرنا اسم من جاء بهذا الفن من الأندلس الى شمال أفريقيا، عندها يمكن أن نعرف الأصل الحقيقى للمرسكاوى، من جاء بموشحات المألوف الأندلسية هم مسلمو الأندلس المعروفين بأسم الموريسكيين.
وقد تم تهجيرهم من الأندلس ما بين عامى 1250 و1614، وانتقل جزء كبير منهم الى شمال أفريقيا حاملين معهم فن المألوف والموسيقى ، حيث استقرت معظم العائلات الأندلسية فى درنة، كما ان جزءًا منها ذهب الى بنغازى وطرابلس. حافظت طرابلس على نغم مألوف قريب من النغم الأصلى، وطورته بينما أخذ اللحن الأندلسى ايقاعا مختلفا فى بنغازى ودرنة والبيضاء ليتحول الى ما يسمى «المورسكاوى« نسبة الى الموريسكيين. لا عجب ان ياخذ اللحن الأندلسى تفرعات مختلفة باختلاف البلد والمدينة، وهذا لا ينبغي تسميته بالتشويه بل بالتطوير.
من الممكن جدًا أن يكون الموريسكيون قد جلبوا معهم أنماطًا موسيقية مختلفة، فهم جاءوا من عدة مدن أندلسية مختلفة.
ويؤكد عبدالوهاب :
أن الموسيقى الشعبية الأكثر انتشارًا في اقليم اندلس جنوب اسبانيا هى موسيقى «الفلامنكو» التى نشأت فى القرن الثامن عشر، التشابه لا يزال كبيرًا بين «الموريسكاوى والفلامنكو»، كلاهما يعتمد على الغناء بالحنجرة، والبداية بالموال كما يتشابهان فى معظم الآلات الموسيقية، حتى التصفيق باليدين موجودٌ فى كلاهما، إلا أنه ذا إيقاع أسرع فى «الفلامينكو».
كلمة مرسكاوي ما هى إلا نطق لكلمة موريسكى باللهجة المحلية البرقاوية المريسكاوي هو فن من أصول أندلسية، انتشر فى برقة وتم تطويره بأشكال مختلفة حسب المنطقة.