جولة تكشف خفايا التنمّــر والعنف !!

وجوه صغيرة.. جراح كبيرة..
تروي الأمهات ما لا يُقالُ داخل الفصول
لم تعد علاقة الأمهات بالمدرسة تقتصر على حقيبةٍ تُجهّز في الصباح، أو دفتر ملاحظات تُوقَّع في المساء؛ فقد تغيّر زمن التعليم، وتغيّرت معه أدوات التواصل. أصبحت غرف «التلجرام»، و«الواتس آب» فضاءً يوميًا لتبادل الواجبات والمراجعات، وهذا الأهم نافذة تكشف وجعًا صامتًا يتوارى خلف جدران المدارس.
في إحدى مجموعات «التلجرام» المخصَّصة لأمهات فصل دراسي، دخلتُ لأراجع ما التقطته المعلمات من واجبات الدروس، فإذا بأمٍّ حزينة تكتب رسالة جعلتْ المجموعة كلّها تسكن.كانت تحكي عن ابنتها التي تغيّبتْ لأسبوعين بسبب المرض، وحين عادتْ للمدرسة لم تجد يدًا تمدّ لها دفترًا واحدًا لتلحق بما فاتها. كل البنات رفضن إعطاءها الكراسات، أو شرح الدروس، تقول الأم بصوتٍ يقطر وجعًا، قبل أنَّ تضيف: ابنتي أخلاقها عالية.. لكن مستواها الدراسي ضعيفٌ، وهم ما يردن مصاحبتها.
كانت الأم تروي أن طفلتها عادتْ من المدرسة منهارة، ترفض الذهاب مجددًا، وتشعر بأنها منبوذة داخل فصلها. ولأن الأم بحثت عن أي حلّ، طلبتُ مني التواصل مع الاختصاصية الاجتماعية في المدرسة. جاء الردّ صادمًا: ربي أعطاها جمالًا ربانيًا.. لكن للأسف في قرايتها ضعيفة. لم تتحدث الاختصاصية عن احتواء، ولا عن دعم نفسي، بل اختزلت الطفلة في معادلة غير عادلة تُشبه أحكام الشارع، لا أحكام المربين.
وفي قصة أخرى جاءتني من أحد زملائي قال ليَّ: بما أنكِ تكتبين عن الجانب الاجتماعى اريد أنّ تطرحي موضوع العنف المدرسي، لازم تعرفي قصة ولدي يروي أنّ ابنه، وهو في الصف الأول، تشاجر مع زميله في لحظة طفولية عابرة، ليمسك الأخير قلمًا حادًا ويوجه ضربة مزّقتْ أذن الطفل وخده.
المشهد لم يتوقف عند حدود الفصل؛ نُقل الصغير إلى المستشفى وتمت خياطة جرحه. وبرغم خطورة الإصابات، تنازل الأب عن القضية لأنهم أطفال، كما قال، احترامًا لعلاقة العائلتين ومحاولة لإخماد الشر.
هاتان القصتان، بحمولتهما الإنسانية الثقيلة، كانتا مفتاح هذا الاستطلاع. من خلالهما بدأتُ جولة ميدانية داخل عدة مدارس لرصد مستوى «التنمّر والعنف»، وأسبابهما، وتأثيرهما على الأطفال، وكذلك جاهزية المدارس لمعالجة مثل هذه الظواهر التي باتتْ تشكّل خطرًا حقيقيًا على الصحة النفسية والسلوك التربوي.
ميدان الاستطلاع مدارس تكشف روايات أكثر وجعًا
في أكثر من مدرسة زرتها، تكرَّرتْ الملامح نفسها: تلاميذ منزوون في الساحة، أطفال يخشون الإجابة في الفصل خوفًا من السخرية، وأمهات على أبواب المدارس ينتظرن أبناءهن بقلوب مرتعشة، خشية أن يعود وا بجروح جديدة لا تُرى بالعين . في جولتي داخل عدد من المدارس، كان المشهد متشابهًا بشكل مُقلق:
أطفالٌ يجلسون في زوايا الساحة، يراقبون الآخرين من بعيد.
طلابُ يخفضون رؤوسهم كلما مرّ متنمّر معروف.
معلمات يحاولن التوفيق بين حصص الدراسة وملاحقة الشجارات الصغيرة.
وأمهات يقفن عند الأبواب قبل انتهاء الدوام بدقائق، وكأنهن ينتظرن طفلًا عائدًا من معركة، لا من درس.
أحد المعلمين قال ليَّ بصريح العبارة:
التنمر اليوم مش كيف زمان.. فيه عزلة مقصودة، تصوير، سخرية جماعية، ونشرمقاطع في القروبات.
مديرة مدرسة أخرى تضيف:
أغلب الشكاوى مش ضرب… أغلبها كلام يوجع: سبّ، استهزاء، تقليل قيمة… والطفل اللي يسمع الكلام هذا يوميًا، ينهار.
شهادات الطلبة… حين يتكلم الصغار بصوت الكبار على أطراف الساحة، اقتربت من مجموعة طلاب. لم أسألهم كثيرًا؛ كانوا هم الأكثر رغبة في الكلام.
طالب في الصف السادس قال:
دايمه يضحكوا عليّ لأن نلبس نظارة… يقولولي يا أعمى. ولما نشكي للمعلم، يقول تجاهلهم.
طالبة في الصف الرابع روت بخجل:
لما نبي نقعد معاهم، يقوموا ويخلوني وحدي… يقولولي ما نبو حد ثقيل.
تلميذة إعدادية تؤكد أنّ العنف انتقل للهواتف:
يديروا قروبات ويسخروا من أي وحدة ضعيفة… مرات يلقّطوا صور ويرسلوها لبعض.
أما الشهادة الأكثر تكرارًا جاءت من تلميذ في الصف الثالث يقول:
بابا يقولي اللي يضربك اضرب … ما تكّتفش إيدك. مرات يقول ليَّ اضرب قبل ما يضربوك.
وهو ما يدل على ثقافة أسرية تغذّي العنف بدل تهذيبه.
طفل آخر حكى حادثة أخرى:
ولد ضرب صاحبه بالمسطرة على راسه قدامنا… وصاحبه طاح. ضحكوا كلهم وما حد وقّف.
تلميذة في الصف الخامس روتْ حادثةً تُشبه جرحًا مفتوحًا:
صورتني زميلتي وأنا نايمة في وقت الاستراحة … ونشرتها في القروب. من يومها ما نبيش نمشي للمدرسة.
شواهد أخرى… حوادث لا تقف عند حدود الفصل
من خلال الجولة، برزت شواهد متعددة للعنف:
طفل تم دفعه بقوة من أعلى الدرج وكُسرت ذراعه.
تلميذة تمّ تمزيق حقيبتها لأنها رفضت إعارة أدواتها.
طلاب يمنعون زملاء ضعفاء من اللعب في الساحة.
صف كامل يسخر من طالب يعاني من التلعثم في القراءة.
طالبة تُغلق أمامها دورة المياه من قِبل بنات يتخذن الأمر مزحة.
هذه ليست حالات فردية كما يصفها البعض… إنها ظاهرة.
أكد أحد المعلمين أنّ التنمّر أصبح يأخذ أشكالًا جديدة: عزلة متعمدة، سخرية جماعية، تصوير داخل الفصول، ونشر مقاطع للضحايا على المنصات.
وأضاف آخر: الأطفال اليوم يقلّدون ما يشاهدونه في «الإنترنت»، وليس ما يتعلمونه في الحصة.
وفي مدرسة أخرى روتْ مديرة المدرسة أنّ الشكوى الأكبر التي تتلقاها يوميًا تتعلق بإهانات لفظية متبادلة بين الطلاب، سرعان ما تتطور إلى دفع وضرب. وللأسف، تضيف المديرة “ بعض الأهالي يشجّعون أبناءهم على الردّ بقوة بدل الحوار، مما يجعل المدرسة ساحة صراع، لا بيئة تعليم.
العنف المدرسي ليس حادثًا فرديًا
الاختصاصية الاجتماعية الأولى ترى أنّ التنمّر مرض اجتماعي متراكم، يبدأ من البيت قبل أن يظهر في المدرسة
وتوضح أنَّ الطفل الذي يتعرض للإهانات، أو التحقير في المنزل، غالبًا يصبح متنمرًا على زملائه. وتضيف: نسبة كبيرة من الحالات التي نتابعها تعود لغياب الحوار الأسري، وقسوة العقاب، وعدم احترام مشاعر الطفل”.
الاختصاصي النفسي يقدّم تفسيرًا أوضح: العنف المدرسي ليس سلوكًا لحظيًا، بل هو انعكاس لاضطراب بيئي، سواء داخل المنزل أو في وسائل التواصل.
ويشير إلى أن التنمّر اللفظي اليوم هو الأكثر انتشارًا، تليه العزلة، ثم التنمّر الجسدي. لكن أخطرها، كما يقول: التنمّر الصامت.. حين يشعر الطفل بأنه بلا قيمة.
أما الاختصاصي التربوي فيعتبر أنَّ جزءًا من المشكلة هو ضعف تدريب المعلمين على إدارة السلوك. ويضيف: المعلم هو خط الدفاع الأول، وإذا لم يمتلك مهارات التدخل المبكر، تصبح المدرسة كلها بيئة خصبة للعنف”.
ويؤكد جميع الاختصاصيين على النقاط التالية: على ضرورة وجود برامج دورية في المدارس لتعزيز مهارات التواصل والاحترام.
أهمية تدريب الاختصاصيين الاجتماعيين على التعامل النفسي مع الأطفال، وليس مجرد رصد السلوكيات.
إشراك أولياء الأمور في ورش عمل حول التنشئة الإيجابية.
تفعيل نظام الإبلاغ داخل المدارس بسرية تامة لحماية الأطفال الضحايا.
وفي ختام الاستطلاع تتضح حقيقة لا يمكن إنكارها: العنف المدرسي لم يعد مجرد تصرفٍ عابر، بل أصبح أزمة تربوية ونفسية تهدَّد جيلًا كاملًا. قصص البنات اللاتي لا يجدن صديقة في الفصل، والطفل الذي يُضرب بقلمٍ فيتشقق وجهه، وأطفال ينامون ليلًا وهم يخشون صباح الغد.. كلّها رسائل يجب أن تستوقف الأسرة والمدرسة والجهات التعليمية.
المدارس كما ظهرت في هذا الاستطلاع، ليست مجرد مقاعد وسبورة، بل عالم تتشكل فيه شخصية الطفل، وتُبنى فيه ثقته بنفسه. وإذا لم تكن بيئة آمنة، فسوف تصنع جيلًا مهزوزًا، لا يثق بنفسه ولا بالآخرين.
نتائج الاستطلاع تشير إلى الآتي:
غياب الحماية النفسية داخل بعض المدارس يُسهِم في تفاقم التنمّر.
ضعف تدريب المعلمين والاختصاصيين يجعل التدخل في الوقت المناسب شبه غائب.
مواقع التواصل أصبحت منصة تنعكس آثارها على سلوك الأطفال داخل الفصول.
ضرورة إعداد خطة وطنية” لمكافحة التنمّر، تتضمن تدريب، ورصد، وعقوبات تربوية، ودعم نفسي.
إشراك الأسرة هو الحل الأول والأخير… فالمدرسة مهما حاولت، لن تستطيع وحدها تغيير صراعات يُنتجها المنزل.
في النهاية يبقى السؤال الأهم: هل سننتظر قصة أكثر ألمًا لنبدأ مواجهة العنف المدرسي؟ أم سنعتبر صرخات هذه الأمهات والآباء جرس إنذار يجب الالتفات إليه قبل أن تخسر المدارس أهم ما فيها: طفولة آمنة تستحق الحبّ لا الخوف؟!.
بوي يقولي :
اضرب قبل ما يضربوك!!
أمهات ينتظرن أطفالهن وكأنهم عائدين
من معركة !!


