حافة العشق
الزرع يريد .. مناجل وإيد..!!
الناجي الحربي
قبل اندلاع وسائل الاتصال المختلفة من انترنت وأطباق فضائية وهواتف نقالة كانت الحياة بسيطة .. ليس بها مثل هذا التعقيد الذي يجلدنا كل يوم بشراسة، كانت وسائل التواصل أقوى بكثير من وقتنا هذا، رغم قلة الإمكانات، وشح السيارات .. أذكر أنه عندما كنتُ بالصف السادس في منتصف العقد السادس من القرن الفائت وعدني أبي بهدية قيمة إذا ما نجحت وذكر المذيع اسمي ضمن قوائم الناجحين حينما كانت تذاع أسماء الناجحين في الشهادة الابتدائية عبر إذاعة ليبيا المسموعة الوحيدة.. وعندما حان موعد إعلان النتائج كان اسمي في صدر قائمة الناجحين بتفوق .. فخيّرني ما بين شراء دراجة أو كاميرا لكنني طلبت منه آله لم أكن أعرف اسمها آنذاك وهي الكمان ، كنت قد رأيتها بيد الفنان (عطيه شراره) حينما كان التلفزيون أبيض وأسود .. ولأنني وحيد والدي ، ويبدو أن أمي قد أنجبتني ( على يبس كبد) فقد استجاب والدي لطلبي على مضض وتحت إلحاحها، ولأنه تورط في وعد كان لا بد له من الوفاء به ، نهضنا في الصباح الباكر وقبل الساعة السابعة كنا في محطة الحافلات بقريتي « مسه» المرتمية في حضن الجبل بغنج ودلال ، وفي الموعد ركبنا الحافلة المتجهة بنا نحو بنغازي .. ونزلنا بالقرب من سوق التركة واستقلينا (كارو كاليس) كي ينقلنا صوب الإذاعة بعد أن سأل أبي عن مكان بيع الآلات الموسيقية فأشاروا له على الإذاعة ربما يجد فيها من يدلنا على ذلك .. توقف بنا (الكارو) بالقرب من هوتيل فخم بجانب الإذاعة ويممنا إلى الإذاعة حيث كان يقف أمامها رجل كما لو أنه كان ينتظر أحداً ما ، شخصيته كانت مألوفة عندي وعند والدي ، تميز بتسريحة شعره ،و جسده النحيف، كان يرتدي بدلة رمادية بأناقة، وتعلو وجهه ابتسامة طفولية ، سأله والدي عن مكان بيع الآلة التي لا نعرف لها اسما والتي عادة ما توضع مؤخرتها تحت الذقن، فدلنا باهتمام مفرط بعد أن أعجب بتشجيع والد لأبنه على العزف وتعلم الموسيقا ، وأخذ يعدد مناقب الكمنجة ، من حيث أنها تظهر الأحاسيس الرقيقة وتمنحها قوة تعبير خارقة .. وأوصى بجودة الاختيار كخشب الصندوق وإتقان الصنعة ومراعاة مقاييس النسب بين القطع المكونة منها .. ثم تناول ورقة من جيبه كتب عليها عنوان واسم صاحب دكان لا أذكر مكانه الآن ، ولكن على ما أظن أنه بالقرب من قهوة (علي الجالي) الواقعة في منتصف شارع بالروين، أو في أحد الأزقة خلف سوق الحوت ، وأسدى لنا نصيحة بأن نختار كمنجة مستعملة وليست جديدة .. سخر أبي من النصيحة الأخيرة وأقسم بأن يشتري كمنجة جديد ة مهما كان ثمنها، لجهله طبعاً بقيمة الآلة العتيقة، فرحت في داخل نفسي وأدركت أن والدي يحب أمي كثيراً .. وبالفعل تحصلت على كمنجة جديدة ، ولا أعرف كم كان سعرها وقتئذ ، فلم يكن يهمني الثمن بقدر ما يهمني الحصول على غايتي .. على تمام الساعة الواحدة كنا في محطة الحافلات التي كانت ملتزمة بالمواعيد المواعيد للعودة إلى مسه ، وفي آخر مقعد من الحافلة التي تقل ما يزيد عن الستين راكباً والمتجهة نحو طبرق جلست بجانب والدي أعبث بأسلاك الكمان، على غير هدى ، فيما كان الركاب ينظرون إلى مؤخرة الحافلة بشيء من التأفف ، ولم أصل قريتي حتى تقطعت الأوتار الأربعة ..
في المساء وأمام شاشة تلفزيون جارنا الضابط بمركز بوليس نقطة مسه ، شاهدت الرجل الذي نصحنا بشراء كمنجة مستعملة وإذا به الفنان (طاهر عمر ) رحمه الله .. وبعد سنوات – منتصف العقد السابع من القرن العشرين تقريباً- قابلته في بيت ابن قريتي الشاعر الغنائي (فضل المبروك) وقصصت له حكايتي مع آلة الكمان و تفاصيل أول لقاء به أمام إذاعة بنغازي في يوم قائض، سرعان ما تذكر الحادثة بكل جوانبها الدقيقة .. وسألني عن الكمنجة فقلت له لم تصل البيت إلا وقد تقطعت أوتارها ،وعلى الفور قال متأسفاً : إذا ليست مستعملة ؟. . بعد أن قرأت عن الفن عرفت أن آلة الكمان كلما تقدمت في الاستعمال أصبح خشبها أكثر مرونة وبالتالي تكون الأصوات الصادرة عنها أرق وأحلى و ثمنها أغلى من الجديد . . فكان المغفور له (طاهر عمر) أول فنان أراه مباشرة ،وجهاً لوجه ، وأول فنان أقابله في منزل الراحل (فضل المبروك) عندما كان الغناء .. فناً حقيقياً !! (والزرع يريد .. مناجل وإيد).