
في مساء هادئ من أمسيات طرابلس، أنهى فريق من إحدى المطبوعات مهمته الميدانية في العاصمة، وتوجّه إلى موقع توقف مركبته على جانب طريق الشط قرب المدينة القديمة. وما أن وصلوا حتى فوجئوا باختفاء السيارة، دون أي أثر للكسر أو العبث، فيما كان الشارع يعج بالمارة والمركبات كالمعتاد. البحث في محيط المكان لم يُفضِ إلى نتيجة، ليقرر الفريق التوجّه إلى إحدى دوريات وزارة الداخلية، حيث أفاد أحد رجال الشرطة بأن المركبة سُحبت بواسطة ساحبة حديثة تابعة لرجال المرور، من دون أي تفسير لسبب الحجز أو الجهة التي أمرت به.
هذا المشهد لم يكن استثناءً. ففي طرابلس، تتكرر حالات سحب المركبات يومياً لعشرات المواطنين، ما يجعل السؤال الأكثر تكراراً على ألسنة الجميع: هل تحول حجز السيارات من إجراء تنظيمي إلى نشاط ربحي غير معلن؟
شوارع العاصمة… شهادات تنطق بالواقع
في شارع عمر المختار، وقف “محمد” بجانب سيارته التي حُررت لها مخالفة، مشيراً إلى عشرات المركبات الأخرى المتوقفة في المكان نفسه من دون أن يقترب منها أحد. تحدث عن إحساسه بالغربة أمام هذه الإجراءات، وهو يصف كيف أصبحت الإجراءات الروتينية اليومية للمواطنين أشبه بحلبة متاهة. وفي ميزران، رصد أحد أصحاب المقاهي مرور شاحنة صغيرة تتوقف بين الحين والآخر، ترفع من عشرة إلى خمس عشرة سيارة خلال دقائق معدودة وتغادر، دون أي إشعار أو تحذير، ليجد الناس أنفسهم في رحلة بحث شاقة عن مركباتهم التي اختفت فجأة.
هكذا تتحول المخالفة البسيطة، التي ربما كانت يمكن تسويتها بغرامة بسيطة، إلى عبء يثقل كاهل المواطن ليس على صعيد الوقت والجهد فحسب، بل على صعيد المال أيضاً، إذ يدفع المواطن خمسين ديناراً ليستعيد مركبته، في ظل غياب أي وسيلة تواصل أو آلية واضحة تُعلمه بسبب الحجز أو مكان نقل المركبة.
الشركة الخاصة… من تعاون مؤقت إلى مصدر دخل ثابت
في البداية، كان التعاون بين إدارة المرور وشركة خاصة لنقل المركبات بمثابة حل مؤقت لنقص معدات المرور، وفق مصادر مطلعة. لكن مرور الوقت حول هذا التعاون إلى نشاط اقتصادي ثابت، إذ ارتبطت أرباح الشركة بعدد السيارات المحجوزة بشكل مباشر. موظف داخل الشركة أوضح أن عملهم يقتصر على تنفيذ ما تحدده إدارة المرور، إلا أن الواقع يُظهر نموذجاً اقتصادياً بسيطاً: كل سيارة تُسحب تمثل دخلاً إضافياً للشركة، وفي ظل غياب الرقابة والشفافية، يتحول الحجز من خدمة داعمة إلى نشاط ربحي قائم بذاته.
المواطن… الحلقة الأضعف
“عبدالسلام”، صاحب محل ، يروي تجربته بعد أن اضطر لدفع خمسين ديناراً، أي ما يعادل دخله ليومين كاملين، ليستعيد سيارته. يشير إلى أنه لم يرَ أي لوحة تحذيرية، وحتى لو كان قد أخطأ، فإن القرار بأن يكون الحجز هو الإجراء الأول لم يكن عادلاً في نظره. رحلة استعادة مركبته بدت له كأنها متاهة لا نهاية لها، تبدأ بزيارة الشركة، ثم المرور، ثم العودة للشركة مرة أخرى، قبل الوصول أخيراً إلى ساحة الحجز حيث انتهت عملية الاسترجاع بالدفع. وغالباً ما تُنجز العملية كلها دون تحرير مخالفة رسمية، في خطوة تبين الخلل في آليات تطبيق القانون.
القانون واضح… والتطبيق غائب
استشار التحقيق ثلاثة محامين متخصصين، أكدوا أن الحجز القانوني يشترط وجود لوحات منع واضحة، وأن يكون الوقوف مؤثراً على حركة المرور، مع تحرير مخالفة رسمية قبل أي قرار بالحجز، وإبلاغ صاحب المركبة أو ترك إشعار في المكان. لكن الواقع في طرابلس يُظهر أن الحجز أصبح الخيار الأول وليس الأخير، ما يحوّل إجراءً استثنائياً إلى قاعدة عامة، ويثير تساؤلات عن الشرعية القانونية لهذه الممارسة.
حين يتحول القرار الإداري إلى منفعة اقتصادية
خبراء الاقتصاد يرون أن ما يحدث في طرابلس يندرج ضمن نموذج معروف دولياً يُسمى “الاستحواذ التجاري على قرار تنظيمي”. ويظهر ذلك من خلال غياب الإفصاح المالي عن نشاط الشركة، واحتكارها للخدمة، وانعدام الرقابة المستقلة، إلى جانب البيئة الحضرية المختنقة التي تجعل حركة المرور أشبه بساحة مفتوحة لحالات الحجز المتكررة. في هذه الظروف، تصبح عملية سحب المركبات نشاطاً اقتصادياً له خصائص السوق، ويُنظر إليه على أنه استثمار على حساب المواطنين.
رواية المرور… بين الواجب والضغط
مصدر في إدارة المرور أوضح أن ازدحام طرابلس القاتل يجعل التدخل السريع ضرورياً، وأن الشركة الخاصة تمتلك المعدات التي تفتقر إليها الإدارة، وهو ما يبرر اللجوء إلى خدماتها. ومع ذلك، تبقى أسئلة عديدة بلا إجابة، خصوصاً فيما يتعلق بأسباب غياب اللوحات التحذيرية وعدم الإعلان الرسمي عن الرسوم، ما يترك المواطنين في حالة من الإرباك والشك.
مدينة بلا مواقف… أصل الازدحام
لا يمكن فهم هذه الأزمة بمعزل عن الواقع العمراني لطرابلس، حيث الشوارع الضيقة، وغياب المواقف العامة، يدفع السكان إلى التوقف في أماكن غير مخصصة، ليس عن اختيار، بل عن اضطرار. ويصبح الوقوف العشوائي سلوكاً واقعياً أكثر منه مخالفة قانونية، ما يعكس حاجة المدينة إلى حلول تنظيمية حقيقية ومستدامة.
إصلاح التوقف المخالف خطوات ممكنة
معالجة الأزمة تبدأ بنشر عقود التعاون بين الشركة وإدارة المرور للعلن، وتوضيح الأساس القانوني للرسوم، وتثبيت لوحات منع واضحة في جميع المواقع، واعتماد سياسة تحذير مسبق قبل أي عملية سحب. كما يجب تحرير المخالفة أولاً ثم اللجوء للحجز في حالات الضرورة، مع فتح قنوات فعّالة لتلقي شكاوى المواطنين، وإنشاء مواقف رسمية مدفوعة برسوم رمزية لتخفيف الضغط على الشوارع، وهي خطوات يمكن أن تحد بشكل كبير من عمليات الحجز العشوائي.
خمسون ديناراً تكشف أكثر مما تُخفي
القضية لا تتعلق بقيمة مالية محددة، بل بأزمة ثقة بين المواطن والجهات الإدارية، في ظل غياب الشفافية وتداخل المصالح. حتى عندما يتم دفع المبلغ واستعادة المركبة، تبقى المشكلات قائمة، إذ تُظهر كل عملية حجز كيف يمكن لإجراءات بسيطة أن تتحول إلى نشاط ربحي غير معلن يفاقم معاناة المواطنين. وبينما تستمر الشاحنة في جولاتها اليومية، تظل كل مركبة تُسحب جزءاً من قصة أكبر لم تُكتب نهايتها بعد، وتبقى طرابلس أمام تحدٍ مزدوج: تنظيم المرور وإعادة الثقة إلى الشارع.



