أسهم اتساعُ الرقعة الجغرافية لليبيا إسهامًا مباشرًا في التنَّوع التراثي الموسيقي والغنائي الممزوج بخليط من الثقافات الموروثة من سكان المناطق المختلفة في ليبيا ابتداءً من مدينة طرابلس حيث فن المالوف والإنشاد الديني وأغاني الزمزامات إلى واحات الجفرة بالمنطقة الوسطى لليبيا والتي تضم مدن )سوكنة، هون، ودان، زلة( بأنماطها الغنائية، وقوالبها المتعدَّدة، وإيقاعاتها المتنوعة إلى الجنوب الليبي؛ حيث مدينة مرزق مصدر الفن «المرزقاوي» والمتمثل في الأغنية المرزقاوية ذات الشخصية المتفردة التي اجتازتْ حدودها وانتشرت انتشارًا واسعًا وذلك بفضل جمالها وروعتها وتكوينها الإيقاعي واللحني الفريد بالاضافة لبعض الفنون الغنائية الأخرى.
يتميز التراث الغنائي لمنطقتي «الجفرة، ومرزق» بعديد الخصائص الفنية التي جعلت منه فنًا عريقًا له خصوصيته التي تميزه عن غيره الأمر الذي جعله مطية لبعض الفنانيين.
ضمن أعمالهم الفنية فهو فنٌ قائم بذاته تحكمه خصوصية خاصة؛ فلا يقبل القفز عليه بأي شكل من الأشكال؛ فله كل الحق في ذلك طالما يتمتع بكل هذه الخصائص الجمالية.
فقد تناوبَ على غناء هذا التراث العديد من المطربين المحليين منذ مطلع القرن الماضي من خلال المناسبات المختلفة؛ حيث كان يعرف هذا الفن في طرابلس بالفن «الفزاني» أي الأغاني الوافدة من إقليم فزان.
كذلك تغنى بهذا التراث من القطر التونسي الشقيق اقطاب الغناء في تونس مما اخذوه من بعض الفنانين المهاجرين من طرابلس للبلاد التونسية مطلع العقد الثاني من القرن الماضي
أمثال الفنانين )فحيمة، والداقرة، والدهماني( والأخوين بردعة وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم بالاضافة إلى ما دخل عن طريق التبادل والتداخل الفني بين القطرين في فترات مختلفة.
فقد غنى الشيخ خميس ترنان )لوكان ليلة البارح الليلة(.
وغنت المطربة صليحة من الفن المرزقاوي
)ما ننساكَ يا غالي عليا(.
وغنى الشيخ العفريت )لايام كيف الريح في التبريمة(.
وغنى الفنان زياد غرسة )شاعل نار حبك في كنيني(.
وغنت المطربة سلاف )يا جديدة يا دار اللوح(
من وجهة نظري أن هذا الانتشار نعتبره أمرًا ايجابيًا لترويج هذه الفنون، ومكسبًا مهمًا للأغنية الجفراوية، والمرزقاوية خصوصًا، والليبية عمومًا فقد ابدعوا في غناء، وإثراء هذا الموروث البديع بشكل رائع
ونظرًا لغياب التوثيق في بلادنا بطرق علمية وصحيحة التي تضمن تداول تاريخ الفن والتراث الليبي بطرق سليمة ومنصفة الأمر الذي خلق نوعًا من الفوضى العارمة التي اجتاحتْ جميع منابر تداول التراث الغنائي بصفة عامة، وعلى مختلف الصُعد بالاضافة إلى أننا لم نحسن تسويق الفنون التراثية الليبية، والتعريف بها محليًا، ودوليًا.
ولعل ما قمنا به مؤخرًا من خلال إدارة التوثيق والإعلام بالمركز القومي لبحوث ودراسات الموسيقى العربية من رصد وجمع وتوثيق هذه التسجيلات المختلفة ذات العلاقة لتكون هنالك خطوة أولى تبنى عليها خطوات أخرى جادة في هذا السياق المهم
وما دفعني لكتابة هذه السطور ما تداوله بعض النشطاء والمهتمين بالتراث الغنائي لمقطع غنائي لمطربة ليبية من الطائفة اليهودية وتدعى )جيولا بردي( تغني من التراث الجفراوي اغنية
)نور عيون اليوم قابلني عضاه(
قد اشتهرت الأغنية منذ أواسط القرن الماضي من خلال المطرب علي الشعالية رحمه الله وقد سجلها مرئيًا بالإذاعة الليبية
حيث نسبها البعض أنها من تأليف الشاعر الفنان عبدالهادي الشعالية رحمه الله وانها من فن «المرسكاوي».
احمد دعوب
وقال البعض الآخر إنها من أغاني اليهود والجميع يعتقد ويصدق اعتقاده دون حجة وتدليل.
ومن هذا المنطلق علينا احقاق الحق، والانصاف فإن هذه الاغنية تعد من التراث الغنائي الجفراوي وهي لا تزال تغنى في مختلف مناسبتهم الفنية والاجتماعية وتؤدى بما يعرف عند أرباب هذا الفن في منطقة الجفرة بـ)النخيخة(.
والحقيقة هي كما أوردها الفنان بلقاسم رتيمة السوكني الذي يعد مكتبة أرشيفية متنقلة لفنون التراث الجفراوي، وغيره من فنون الغناء الشعبي فقد نسبها للفنان الخريصي من بلدة زلة، وأن الأغنية أصبحت من التراث الغنائي لمنطقة الجفرة عمومًا ..
وتقول كلمات الأغنية :
نور عيون اليوم قابلني عضاه
شاطتْ نار الحب ما ينفع دواء
نور عيون اليوم ريته ياعرب
ضي خدوده كيف نيران الحطب
فم الباب وين قابلني هرب
برم وجهه واعطاني بالقفاء
نور عيون اليوم ريته ف النهار
ضي اخدود كيف شمعات الفنار
وسالف حدر طوله قامه بالحكار
وشفه بوقرعون راوى بسيل ماه
نور عيون اليوم في منزل خفي
جي في زنقة وناسها حاحوا على
وياسعد المتهوم كان قالوا نجي
خفوا ذنبه الناس والمولى عطاه
نور عيون اليوم الميمن وسيع
في عمالة فزان ما عنده رديع
أنتي زولك كما باشا رفيع
بالعطر الوردي وبالسنبل ملاه
وبهذا يعد الفن في واحات الجفرة، ومرزق رافدًا مهمًا للفن في بلادنا، وعلينا الوعي بقيمة هذا الموروث الفني البديع والحفاظ عليه، والتعريف به وبقيمته الفنية والتاريخية.