فنون

الفن الجفراوي: كنزٌ بعثرته الفوضى وغياب التوثيق

إشراف : هند التواتي

أسهم‭ ‬اتساعُ‭ ‬الرقعة‭ ‬الجغرافية‭ ‬لليبيا‭ ‬إسهامًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬في‭ ‬التنَّوع‭ ‬التراثي‭ ‬الموسيقي‭ ‬والغنائي‭ ‬الممزوج‭ ‬بخليط‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ ‬الموروثة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬المناطق‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬طرابلس‭ ‬حيث‭ ‬فن‭ ‬المالوف‭ ‬والإنشاد‭ ‬الديني‭ ‬وأغاني‭ ‬الزمزامات‭ ‬إلى‭ ‬واحات‭ ‬الجفرة‭ ‬بالمنطقة‭ ‬الوسطى‭ ‬لليبيا‭ ‬والتي‭ ‬تضم‭ ‬مدن‭ )‬سوكنة،‭ ‬هون،‭ ‬ودان،‭ ‬زلة‭( ‬بأنماطها‭ ‬الغنائية،‭ ‬وقوالبها‭ ‬المتعدَّدة،‭ ‬وإيقاعاتها‭ ‬المتنوعة‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭ ‬الليبي؛‭ ‬حيث‭ ‬مدينة‭ ‬مرزق‭ ‬مصدر‭ ‬الفن‭ ‬‮«‬المرزقاوي‮»‬‭ ‬والمتمثل‭ ‬في‭ ‬الأغنية‭ ‬المرزقاوية‭ ‬ذات‭ ‬الشخصية‭ ‬المتفردة‭ ‬التي‭ ‬اجتازتْ‭ ‬حدودها‭ ‬وانتشرت‭ ‬انتشارًا‭ ‬واسعًا‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬جمالها‭ ‬وروعتها‭ ‬وتكوينها‭ ‬الإيقاعي‭ ‬واللحني‭ ‬الفريد‭ ‬بالاضافة‭ ‬لبعض‭ ‬الفنون‭ ‬الغنائية‭ ‬الأخرى‭. ‬

يتميز‭ ‬التراث‭ ‬الغنائي‭ ‬لمنطقتي‭ ‬‮«‬الجفرة،‭ ‬ومرزق‮»‬‭ ‬بعديد‭ ‬الخصائص‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬فنًا‭ ‬عريقًا‭ ‬له‭ ‬خصوصيته‭ ‬التي‭ ‬تميزه‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬مطية‭ ‬لبعض‭ ‬الفنانيين‭. ‬

ضمن‭ ‬أعمالهم‭ ‬الفنية‭ ‬فهو‭ ‬فنٌ‭ ‬قائم‭ ‬بذاته‭ ‬تحكمه‭ ‬خصوصية‭ ‬خاصة؛‭ ‬فلا‭ ‬يقبل‭ ‬القفز‭ ‬عليه‭ ‬بأي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال؛‭ ‬فله‭ ‬كل‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬طالما‭ ‬يتمتع‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭ ‬الجمالية‭.‬‮ ‬‭ ‬

فقد‭ ‬تناوبَ‭ ‬على‭ ‬غناء‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬المحليين‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المناسبات‭ ‬المختلفة؛‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬بالفن‭ ‬‮«‬الفزاني‮»‬‭ ‬أي‭ ‬الأغاني‭ ‬الوافدة‭ ‬من‭ ‬إقليم‭ ‬فزان‭. ‬

كذلك‭ ‬تغنى‭ ‬بهذا‭ ‬التراث‭ ‬من‭ ‬القطر‭ ‬التونسي‭ ‬الشقيق‭ ‬اقطاب‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬مما‭ ‬اخذوه‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬طرابلس‭ ‬للبلاد‭ ‬التونسية‭ ‬مطلع‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي

أمثال‭ ‬الفنانين‭ )‬فحيمة،‭ ‬والداقرة،‭ ‬والدهماني‭( ‬والأخوين‭ ‬بردعة‭ ‬وغيرهم‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يتسع‭ ‬المقام‭ ‬لذكرهم‭ ‬بالاضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دخل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التبادل‭ ‬والتداخل‭ ‬الفني‭ ‬بين‭ ‬القطرين‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬مختلفة‭.‬

فقد‭ ‬غنى‭ ‬الشيخ‭ ‬خميس‭ ‬ترنان‭ )‬لوكان‭ ‬ليلة‭ ‬البارح‭ ‬الليلة‭(.‬

وغنت‭ ‬المطربة‭ ‬صليحة‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬المرزقاوي‭ ‬

‭)‬ما‭ ‬ننساكَ‭ ‬يا‭ ‬غالي‭ ‬عليا‭(.‬

وغنى‭ ‬الشيخ‭ ‬العفريت‭ )‬لايام‭ ‬كيف‭ ‬الريح‭ ‬في‭ ‬التبريمة‭(.‬

وغنى‭ ‬الفنان‭ ‬زياد‭ ‬غرسة‭ )‬شاعل‭ ‬نار‭ ‬حبك‭ ‬في‭ ‬كنيني‭(.‬

وغنت‭ ‬المطربة‭ ‬سلاف‭ )‬يا‭ ‬جديدة‭ ‬يا‭ ‬دار‭ ‬اللوح‭(‬

من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانتشار‭ ‬نعتبره‭ ‬أمرًا‭ ‬ايجابيًا‭ ‬لترويج‭ ‬هذه‭ ‬الفنون،‭ ‬ومكسبًا‭ ‬مهمًا‭ ‬للأغنية‭ ‬الجفراوية،‭ ‬والمرزقاوية‭ ‬خصوصًا،‭ ‬والليبية‭ ‬عمومًا‭ ‬فقد‭ ‬ابدعوا‭ ‬في‭ ‬غناء،‭ ‬وإثراء‭ ‬هذا‭ ‬الموروث‭ ‬البديع‭ ‬بشكل‭ ‬رائع‭ ‬

ونظرًا‭ ‬لغياب‭ ‬التوثيق‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬بطرق‭ ‬علمية‭ ‬وصحيحة‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬تداول‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬والتراث‭ ‬الليبي‭ ‬بطرق‭ ‬سليمة‭ ‬ومنصفة‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬خلق‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬العارمة‭ ‬التي‭ ‬اجتاحتْ‭ ‬جميع‭ ‬منابر‭ ‬تداول‭ ‬التراث‭ ‬الغنائي‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬وعلى‭ ‬مختلف‭ ‬الصُعد‭ ‬بالاضافة‭ ‬إلى‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نحسن‭ ‬تسويق‭ ‬الفنون‭ ‬التراثية‭ ‬الليبية،‭ ‬والتعريف‭ ‬بها‭ ‬محليًا،‭ ‬ودوليًا‭.‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬قمنا‭ ‬به‭ ‬مؤخرًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدارة‭ ‬التوثيق‭ ‬والإعلام‭ ‬بالمركز‭ ‬القومي‭ ‬لبحوث‭ ‬ودراسات‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬وجمع‭ ‬وتوثيق‭ ‬هذه‭ ‬التسجيلات‭ ‬المختلفة‭ ‬ذات‭ ‬العلاقة‭ ‬لتكون‭ ‬هنالك‭ ‬خطوة‭ ‬أولى‭ ‬تبنى‭ ‬عليها‭ ‬خطوات‭ ‬أخرى‭ ‬جادة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬المهم‭ ‬

وما‭ ‬دفعني‭ ‬لكتابة‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬ما‭ ‬تداوله‭ ‬بعض‭ ‬النشطاء‭ ‬والمهتمين‭ ‬بالتراث‭ ‬الغنائي‭ ‬لمقطع‭ ‬غنائي‭ ‬لمطربة‭ ‬ليبية‭ ‬من‭ ‬الطائفة‭ ‬اليهودية‭ ‬وتدعى‭ )‬جيولا‭ ‬بردي‭( ‬تغني‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الجفراوي‭ ‬اغنية

‭)‬نور‭ ‬عيون‭ ‬اليوم‭ ‬قابلني‭ ‬عضاه‭(‬

قد‭ ‬اشتهرت‭ ‬الأغنية‭ ‬منذ‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المطرب‭ ‬علي‭ ‬الشعالية‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬وقد‭ ‬سجلها‭ ‬مرئيًا‭ ‬بالإذاعة‭ ‬الليبية‭ ‬

حيث‭ ‬نسبها‭ ‬البعض‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬الشاعر‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالهادي‭ ‬الشعالية‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬وانها‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬‮«‬المرسكاوي‮»‬‭.‬

احمد‭ ‬دعوب

وقال‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬إنها‭ ‬من‭ ‬أغاني‭ ‬اليهود‭ ‬والجميع‭ ‬يعتقد‭ ‬ويصدق‭ ‬اعتقاده‭ ‬دون‭ ‬حجة‭ ‬وتدليل‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬علينا‭ ‬احقاق‭ ‬الحق،‭ ‬والانصاف‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الاغنية‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الغنائي‭ ‬الجفراوي‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تغنى‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مناسبتهم‭ ‬الفنية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬وتؤدى‭ ‬بما‭ ‬يعرف‭ ‬عند‭ ‬أرباب‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الجفرة‭ ‬بـ‭)‬النخيخة‭(. ‬

والحقيقة‭ ‬هي‭ ‬كما‭ ‬أوردها‭ ‬الفنان‭ ‬بلقاسم‭ ‬رتيمة‭ ‬السوكني‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬مكتبة‭ ‬أرشيفية‭ ‬متنقلة‭ ‬لفنون‭ ‬التراث‭ ‬الجفراوي،‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬الغناء‭ ‬الشعبي‭ ‬فقد‭ ‬نسبها‭ ‬للفنان‭ ‬الخريصي‭ ‬من‭ ‬بلدة‭ ‬زلة،‭ ‬وأن‭ ‬الأغنية‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الغنائي‭ ‬لمنطقة‭ ‬الجفرة‭ ‬عمومًا‭  ..‬

وتقول‭ ‬كلمات‭ ‬الأغنية‭ :‬

نور‭ ‬عيون‭ ‬اليوم‭ ‬قابلني‭ ‬عضاه

                ‬شاطتْ‭ ‬نار‭ ‬الحب‭ ‬ما‭ ‬ينفع‭ ‬دواء

نور‭ ‬عيون‭ ‬اليوم‭ ‬ريته‭ ‬ياعرب

            ‬ضي‭ ‬خدوده‭ ‬كيف‭ ‬نيران‭ ‬الحطب

فم‭ ‬الباب‭ ‬وين‭ ‬قابلني‭ ‬هرب

                    ‬برم‭ ‬وجهه‭ ‬واعطاني‭ ‬بالقفاء

نور‭ ‬عيون‭ ‬اليوم‭ ‬ريته‭ ‬ف‭ ‬النهار

            ‬ضي‭ ‬اخدود‭ ‬كيف‭ ‬شمعات‭ ‬الفنار

وسالف‭ ‬حدر‭ ‬طوله‭ ‬قامه‭ ‬بالحكار

            ‬وشفه‭ ‬بوقرعون‭ ‬راوى‭ ‬بسيل‭ ‬ماه

نور‭ ‬عيون‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬خفي

          ‬جي‭ ‬في‭ ‬زنقة‭ ‬وناسها‭ ‬حاحوا‭ ‬على

وياسعد‭ ‬المتهوم‭ ‬كان‭ ‬قالوا‭ ‬نجي‭ ‬

            ‬خفوا‭ ‬ذنبه‭ ‬الناس‭ ‬والمولى‭ ‬عطاه

نور‭ ‬عيون‭ ‬اليوم‭ ‬الميمن‭ ‬وسيع

                      ‬في‭ ‬عمالة‭ ‬فزان‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬رديع

أنتي‭ ‬زولك‭ ‬كما‭ ‬باشا‭ ‬رفيع

                    ‬بالعطر‭ ‬الوردي‭ ‬وبالسنبل‭ ‬ملاه

وبهذا‭ ‬يعد‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬واحات‭ ‬الجفرة،‭ ‬ومرزق‭ ‬رافدًا‭ ‬مهمًا‭ ‬للفن‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬وعلينا‭ ‬الوعي‭ ‬بقيمة‭ ‬هذا‭ ‬الموروث‭ ‬الفني‭ ‬البديع‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليه،‭ ‬والتعريف‭ ‬به‭ ‬وبقيمته‭ ‬الفنية‭ ‬والتاريخية‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى