رتوش

خرابــــة النوادر

زكريا العنقودي

‮«‬خرابة‭ ‬النوادر‮»‬‭ .. ‬هي‭ ‬المطرُ‭ ‬التي‭ ‬تهطلُ‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬‮«‬مايو‮»‬‭ ‬ويسمى‭ ‬‮«‬ميو‮»‬‭ ‬بالشدّة‭ ‬على‭ ‬الياء‭ ‬وبعد‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬أجدادنا‭ :‬

‭)‬في‭ ‬برير‭ ‬ييبس‭ ‬الزرع،‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬بير‭(‬،‭ ‬ويسمى‭ ‬شهر‭ ‬‮«‬أبريل‮»‬‭ ‬‮«‬الماطو‮»‬‭ ‬المجنون‭ ‬لأنه‭ ‬يمثل‭ ‬فوضى‭ ‬بامتياز‭ ‬في‭ ‬طقسه‭ .‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬النشاط‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬تترتب‭ ‬عليه‭ ‬مستوى،‭ ‬وكيفية‭ ‬معيشة‭ ‬النَّاس‭ ‬والبلاد‭ ‬هو‭ ‬الزراعة‭ ‬و«الزرع‮»‬‭ ‬تحديدًا،‭ ‬وهو‭ ‬زراعةُ‭ ‬الشعير،‭ ‬وهي‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬زراعة‭ ‬موسمية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الأمطار‭ ‬في‭ ‬نجاحها،‭ ‬وتتميز‭ ‬بالطابع‭ ‬الاحتفالي‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مراحلها‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬الحرث،‭ ‬والبذر،‭ ‬وحتى‭ ‬موسم‭ ‬الحصاد،‭ ‬ومجيء‭ ‬‮«‬الحصّادة‮»‬‭ ‬فيما‭ ‬يُسمى‭ ‬‮«‬رغاطة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬فزعة‭ ‬الأهل،‭ ‬والجيران،‭ ‬والأصحاب‭ ‬للحصاد‭ ‬حتى‭ ‬ينحز‭ ‬بشكل‭ ‬سريع،‭ ‬ويكوم‭ ‬أكوامًا‭ ‬بحسب‭ ‬كميته،‭ ‬أو‭ ‬كومًا‭ ‬واحدًا‭ ‬وغيره‭ ‬ويسمى‭ ‬الكوم‭ ‬المتراكم‭ ‬من‭ ‬الشعير‭ ‬المحصود‭ ‬بـ‭)‬النادر‭(‬،‭ ‬والاكوام‭ ‬المتعدَّدة‭ ‬نوادر‭ ‬‮«‬جمع‮»‬‭ ‬نادر‭. ‬بانتظار‭ ‬مجيء‭ ‬أهم‭ ‬عنصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬وهو‭ ‬سائق‭ ‬‮«‬التريبيا‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تدرس‭ ‬الشعير،‭ ‬وتفصل‭ ‬الحب‭ ‬عن‭ ‬التبن،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تمييز‭ ‬المحصول،‭ ‬وفرزه‭ ‬استعدادًا‭ ‬لجلبه‭ ‬للسوق،‭ ‬أو‭ ‬تخزينه‭ ‬حسبما‭ ‬يريده‭ ‬الفلاح؛‭ ‬فيدرس‭ ‬الشعير‭ ‬ويجمع‭ ‬في‭ ‬أكياس‭ ‬كبيرة‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬‮«‬الخيش‮»‬،‭ ‬وتسمى‭ ‬باللهجة‭ ‬العامية‭ ‬‮«‬شوال‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬شكارة‭ ‬بو‭ ‬خط‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬يكبس‭ ‬التبن‭ ‬في‭ ‬‮«‬البلاكة‮»‬،‭ ‬ويُخزن،‭ ‬أو‭ ‬يحمل‭ ‬للسوق‭ .‬

شاهد‭ ‬الحديث‭ .. ‬في‭ ‬‮«‬خرابة‭ ‬النوادر‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬المطرُ،‭ ‬فمن‭ ‬حيث‭ ‬كونها‭ ‬ضرورية،‭ ‬ومطلوبة‭ ‬ومفرحة،‭ ‬ومن‭ ‬دونها‭ ‬ما‭ ‬ينبت‭ ‬الزرع؛‭ ‬فهي‭ ‬أيضًا‭ ‬الخرابة،‭ ‬والمفسدة‭ ‬ومسبَّبة‭ ‬الخسائر،‭ ‬ويتسارع‭ ‬الفلاحون‭ ‬لإنجاز‭ ‬مهامهم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تباغتهم‭ ‬لأنها‭ ‬تفسد‭ ‬الشعير،‭ ‬وتفسد‭ ‬التبن،‭ ‬وتضيع‭ ‬الموسم‭ ‬فالنافعة‭ ‬تصبح‭ ‬ضارةً‭.‬

وهنا‭ ‬قياس‭ ‬مهم‭ ‬جدًا‭ .. ‬فالمطرُ‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬متعدَّدة‭ ‬الفوائد‭ ‬على‭ ‬المطلق،‭ ‬وهي‭ ‬الخير‭ ‬والرحمة،‭ ‬والبركة‭ ‬وهطول‭ ‬الأمطار‭ ‬يلهب‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬المشاعر‭ ‬الجياشة،‭ ‬والفرح،‭ ‬و‭)‬يا‭ ‬مطر‭ ‬صبي‭ ‬صبي‭( .. ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬الاهازيج‭ ‬المتنَّوعة‭ ‬التي‭ ‬تكرس‭ ‬لإيجابية‭ ‬المطر‭ ‬بالنسبة‭ ‬للعموم‭.‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬القياس‭ ‬يصير‭ ‬كارثيًا‭ ‬على‭ ‬اقتصاد‭ ‬البلد،‭ ‬ومفسدًا‭ ‬لمواسم‭ ‬القمح،‭ ‬والشعر‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬فيضانات‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬الإضرار‭ ‬بشكل‭ ‬علني‭ .‬

ما‭ ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬لو‭ ‬أننا‭ ‬نهتم‭ ‬بقياس‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولنا‭ ‬بشكل‭ ‬نسبي‭ ‬عليَّ‭ ‬وعلى‭ ‬الآخرين‭ ‬وعلى‭ ‬بلادنا‭ ‬لما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الانسدادات‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬بالبلد‭ .‬

فما‭ ‬هو‭ ‬مفيدٌ‭ ‬لكَ‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ضارًا‭ ‬لغيرك‭ ‬وما‭ ‬يفرحك‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مجلبةً‭ ‬لحزن‭ ‬غيرك،‭ ‬وبالتالي‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬المراعاة،‭ ‬والاهتمام‭ ‬المشترك‭ ‬وتتسع‭ ‬مداركنا‭ ‬ورؤانا‭ ‬ونصل‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬محترم‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الإخوة‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬البلد،‭ ‬ويعيد‭ ‬لها‭ ‬إتزانها‭ ‬الذي‭ ‬ضاع‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬المراعاة‭ ‬والاهتمام‭ ‬والنسبة‭ ‬بين‭ ‬النسب‭ ‬المتفاوتة‭.‬

خرابة‭ ‬النوادر‭ ..‬‭ ‬هي‭ ‬صابةُ‭ ‬العام،‭ ‬ولها‭ ‬أوجه‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬القيم،‭ ‬وتختلف‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مستويات‭ ‬الثقافة‭ ‬والتلقي‭ .‬

والحر‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬الغمزة،‭ ‬والعبد‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬الهمزة‭ .‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى