على صدره تجثم الصخرة، صخرة من العبودية والقهر، صخرة تاريخ طويل وثقيل، تكتم الصوت، تخنق الروح، وفي ساعة فارقة،لحظة بيج بانج ذاتية، لحظة الانفجار الذاتي العظيم تتناثر الصخرة شظايا وتحلق الروح كائنات طليقة .
لحظة «بلال» رضي الله عنه تلك لا تتوقف عن تكرار الحدوث في تواريخ الافراد والشعوب، ربما قليلون هم من انطلق صوتهم «أحد .. أحد» ولكن لا أحد لم تطحنه يومًا صخرة القيد والحرية صخرة المنفى والملكوت .
برموثيوس مكبلا، برموثيوس طليقا، سيزيف وصخرته، هاملت وصخرة تردده، شهرزاد وسيف الجلاد المتربص بها، الزير وثأره، الحلاج وصليبه، ملايين الارواح عانت صخرة سيزيف وصخرة بلال قبل ان تحلق خفيفة بأثقالها .
تاريخ الفن والأدب قد لا يبدو إلا تاريخ لحظات الانفجار للصخرة والتناثر الحر عبر صفحات كتاب الكون اللامتناهي .
في سطرنا الخاص تظل صخرة الصحابي بلال تجثم على الصدر وتظل شمس ظهيرة الرمضاء العربية وسياط ورثة الجهل وحراسه تلفح ظهورالناس والحجارة .
في اللوحة التي كانت دائما بدايات كل سطر في هذا الكتاب كانت الصخرة تجثم على بياض الصفحة وكانت الريشة وكان «عمر جهان» نحيلاً وطويلا كخيط دخان ومثقلا بصخرة الوجود وحنين العدم،وكانت مصراتة نهايات ريف وزراعة تفلت ونثر استهلاكية يزحف مبتلعا على مهل غنائية النخل وظلاله ورطبه، حلي النساء و»كوفبات» البنات وطواقي الفلاحين ونواويرها،، كان النثر يبتلع كل شيء على مهل .
في اعماله الاولى يبدو الريف ونخله ووجوه فلاحيه وطوابيه وصبارها مراسم ماقبل الدفن، ماقبل التصحر الثاني حيث لن تكون غنائية المشاهد الا رقص وغناء نادبات
في بنغازي حيث الجامعة كانت شعرية العدم تتشكل نثرا وشعرا وماقبل فلسفة وأناشيد وكان كل شيء يتصلب صخرة من الاحذية والخودات والمعتقلات والثورات الثقافية وكان عمر جهان ريشة لوجوده المثقل وخيط دخان لخفة العدم وكانت بنات الجامعة يهشمن صخرة ذاك الوجود السوداء ويحولنها نيازك لرجم الخوذات والاحذية العسكرية والاسلحة، كان جهان وكخيط دخان يتظاهر في الصباح مع الطلبة ويرجم الخودات ويرسم في المساء اسكتشات لبنات يطرن واولاد يرجمون الشياطين محلقين، كانت الاجساد في اسكتشاته تطير،لاتلامس الارض طوال ساعات التظاهر، كان ذلك ربيع بنغازي وطلابها عام 1976م الذي انبت لكائنات عمر جهان اجنحة خفية وحلق بها .
كهوف الكائنات العائدة
لايبدو المنفى في اعمال «عمر جهان» الا عودة، عودة للذات اولا و عودة للوطن «الرحم» بمعناه الوجودي والتاريخي ثانيا، فعبر منفاه في القاهرة بمصر يعود “عمر جهان الى ليبيا, وتحط كائناته الطائرة في كهوفها البعيدة لتكشط عن جدرانها واسطحها ركام وغبار النسيان والجفاف، لتنبعث الحياة تظاهرا ورقصا واحتجاجا وعذابات وألآما وتضج كهوف ماقبل التاريخ بأجساد المتظاهرين في بنغازي وبأرواح المعتقلين في معتقلات الفاشية الوطنية، إنها مرحلة الكشط لكل ما قبر الذات والكيان، واطلاق العنان للكامن تحت صخور بلال وسيزيف .
في «كهفيات الحبر والشمع» ،»وهومعرض جهان الاول في المنفى» يغوص «جهان» كشطا وحفرا في كهوف «الذات» تاريخيا ووجوديا، ليس بحثا عن لقيات اثرية ولكن تخليق جديد لماض وحاضر ومستقبل دفن تحت صخور القمع والنسيان ., انقاذ للذات، التي صارت في المنفى «وطنا رحما»، انه ينجز مهمة «رسام بورخيس» الذي امضى عمره يرسم اجراما واكوانا، مخلوقات واشجارا ونباتات لامحدودة، ليكتشف بعد كل هذا الرحيل وهذا التجوال الذي انجزه في لوحته انه لم يرسم الا وجهه الحامل لكل تفاصيل اكوانه وحيواناته ونباتاته، وكواكبه واجرامه .
الحبر والشمع، السيولة والثبات، الحركة والسكون، ثنيويات ماقبل المنفى وماقبل «الحداثة» يذيبها «جهان « وتذيبه في كهوف الذات وتطلق كائناته حرة عبر سموات كهوف «الذات» ..
ينخرط عمر جهان في اعمال المعارضة الليبية بالخارج كفنان أولا، فينتج لوحات تعبر عن القمع والبؤس الذي يعيشه الانسان في ليبيا تحت القمع، مقتربا من الاشكال التصويرية، ليظهر الانسان الليبي البسيط مثقلا بعذاباته، يظهر وجها وجسدا يقف في الفراغ، مطرودا من المكان، مؤبدا في الفراغ، مقذوفا في الفراغ وليس طائرا بالتأكيد .
هذا الانسان الليبي المعلق في الفراغ، تخلق له لوحات عمر جهان كهفا رحما، وتكشط عن ذاته وروحه غبار واوحال قرون من النسيان والقمع، لتكون «كهفيات الحبر و الشمع» عودة كائنات ظلت مطمورة في منفاها التاريخي الطويل، تعود الى كهف الفنان «رحمها « الذي تتخلق فيه من جديد .
“الخفة احد أهم ملامح اعمال “جهان التي تشكلت عبر «استكشات يوميات « انتفلضة طلبة جامعة بنغازي عام 1976م التي كان يرسمها يوميا اثناء مشاركته في تلك الانتفاضة .
تلك «الاسكتشات» كانت رقصا حرا وتحررا من قيود «التصويرية» التي طبعت ملامح بداياته، كانت تحولا ورحيلا من الريف والنخل الى رقص الشوارع وتحرر الاجساد الشابة تظاهرا وموتا وبعثا جديدا، كان يرسم راقصا وضاحكا، كان النخل يتحول الى خطوط تطير وكان الحجر يتحول نيازك لرجم الطغاة في «كرنفال» «الحرية» .
«الخفة رغم الاثقال « ولدت اذ ذاك وسط تلك الانتفاضة، في شوارع بنغازي عام 1976م، حيث ينطلق جسد الطالبة كالسهم نافضا عن روحه ركام الحجر والوحل، منطلقا وقد تجرد الى خطوط رشيقة واثقة وتجردت حجارته دوائر انوثة ملتهبة، الارجل والاذرع تتجرد خطوطا حرة لايشوبها اعوجاج .
“عمر النحيل كخيط، كخط شديد الرشاقة والخفة يحيل تلك الاجساد والارواح الى خطوط راقصة بخفة في فضاء بنغازي الذي ذابت فيه كل الالوان واستحال “ابيضا
في المنفى تواصل تلك الخطوط هيمنتها على اعمال «عمر جهان» لمايقارب نصف قرن من النبش والعمل، نصف قرن من «ثراء الكفاف» واتساع فضاء الكهف «الرحم» .
“الخفة والكفاف الثري قد لا اجد تعبيرا افضل عن تجربة «عمر جهان» في الحياة والفن من هذا «التعبير»، ويمنحنا «عمر جهان» بفنه مقاربة لليبيا «لخفة هذا الكيان ولكفافه الثري « وللفن حين يتحرر من اطارات عقولنا الصارمة ولعلاقتنا بالكون
لتكون «كرنفالا» من الصيرورة الدائمة .
“عمر جهان المتسمك بمفردة فردانيته يقودنا بخفة الى «جماعية المفرد» و»تفرد المجوع»، الى ثراء الكفاف وخفة الكائنات بأثقالها ., وكل ذلك عبر تجربة الكهف الليبي وكائناته