
في زمنٍ يتسارعُ فيه تغيّر القيم ويثقل الواقع الاجتماعي كاهل الأسرة الليبية، وتتزايد فيه التحديات النفسية والسلوكية التي تضرب الأطفال والشباب في مقتل، يبرز دور المختصين الذين اختاروا أن يكونوا في الصفوف الأولى لاحتواء الأزمات وصناعة الوعي.
من بين هؤلاء يأتي د.رجب بوجناح، اسمٌ ارتبط لسنوات ببرامج الوقاية من الإدمان، ودعم الصحة النفسية، وتدريب المربيات ومعلمات رياض الأطفال، وتمكين القادة الشباب، وانتشال فئات واسعة من براثن مستنقع الاضطرابات السلوكية.
تنقل د. رجب بوجناح بين المدن من الساحل إلى الجنوب مروراً بترهونة وزليتن وأوباري والغريفة وجرمة وقراقرة، حاملاً حقيبة من الخبرة وشغف لا يهدأ، مقدماً عشرات الورش والدورات والمؤتمرات والحملات الوقائية.
في هذا الحوار العميق، نقترب منه ليس فقط كخبير، بل كإنسان اختار أن يكون «بوابة أمل» في بيئة تتطلب الكثير من الصبر، والحكمة والقوة.
ما التجربة الأولى التي جعلتكَ تدرك أنّ الطريق الذي اخترته في الصحة النفسية ليس مجرد مهنة بل رسالة؟
مهنة الطب النفسي رسالة إنسانية قبل كل شيء. الطبيب، أو الأختصاصي حين يختار هذا المجال يدرك أنه ليس مجرد عمل، بل يتطلب صفات لا تتوفر عند الجميع: )السرية، الصبر، المثابرة، الجدية، وروح القتال(.
أهم موقف دفعني لاحتراف هذا المجال هو رغبتي الدائمة في تخفيف ألم الآخرين، ومساعدة مَنْ يعانون دون أن يكون لهم صوت أو سند.
عندما تنظر لحجم المشكلات النفسية والسلوكية في ليبيا. ما السؤال الذي لا يزال يطاردكَ؟
السؤال الذي يتردّد دائمًا في ذهني: هل سننجح في الحد من انتشار هذه السلوكيات؟!.
أجيب نفسي دائمًا: لا بد أن ننجح. الشباب المتورط في المخدرات بحاجة لدعم وتحفيز كبيرين، والعاملون في هذا المجال قليلون جدًا مقارنة بحجم التحدي.
خلال زياراتك للجنوب. ما الحقيقة التي اكتشفتها وغيرتْ نظرتكَ؟
أعمل منذ 30 سنة في التوعية والوقاية، وكل مدينة تعلمني شيئًا جديدًا.
أهم ما اكتشفته في الجنوب هو أن الشباب هناك في حاجة حقيقية للعلاج وفرص النجاة، وأن نقص المختصين والعيادات والوَصم الاجتماعي يجعل الطريق أمامهم أكثر صعوبة. حملاتنا هناك غيّرتْ الكثير من المفاهيم حول الصحة النفسية والمخدرات.
هل انتشار المخدرات سبب أم نتيجة؟
المشكلات النفسية مثل القلق، التوتر، الاكتئاب واضطرابات النَّوم قد تكون سببًا، لكنها ليستْ السبب الوحيد.
هناك أسباب اجتماعية وأسرية واقتصادية: رفاق السوء، الفراغ، البطالة، غياب المراقبة، وسوء التنشئة. وهناك مسؤوليات على الدولة: توفر المخدرات، ضعف القوانين، غياب الخطة الوطنية، ندرة المصحات والمراكز المتخصصة.
ما السلوك الأسري الأخطر الذي يُغذي اضطرابات الأطفال؟
أبرز العوامل هي: الصراع بين الوالدين، التمييز بين الأبناء، غياب القدوة، الطلاق، تعدد نماذج التربية، التدخين، أو التعاطي داخل المنزل، الهروب من المدرسة، والتوقف عن التعليم. هذه كلها تغذي السلوك المنحرف وصولاً إلى المخدرات.
خلال عملك الطويل، هل شعرتَ أن حملات التوعية الكبيرة قد تصطدم أحياناً بواقع لا يريد أن يتغير؟ وكيف تتعامل مع هذا الشعور؟
نعم، واجهتُ ذلك كثيرًا، فالواقع أحيانًا يبدو صعبًا ومتشبثًا بعاداته القديمة، لكن كل تغيير يبدأ بخطوة صغيرة. أتعامل مع هذا الشعور بالتفهم والصبر، وأركز على النتائج الصغيرة التي تتحقَّق على الأرض، لأنها في النهاية تصنع الفارق الكبير.
خلال عملكَ مع فئات مختلفة، من المربيات إلى القادة إلى طلاب المدارس، ما أكثر فجوة نفسية لاحظتها داخل المجتمع الليبي؟
أكبر فجوة هي ضعف التواصل الفعّال بين الأجيال، خصوصًا بين الأطفال والآباء، وبين الشباب والمؤسسات التعليمية. هناك الكثير من القيم والمهارات التي لم تُغرس منذ الصغر، وهذا يخلق فجوات سلوكية ونفسية واضحة لاحقاً.
ما اللحظة التي وقفتَ فيها صامتًا تمامًا لأن موقفًا ميدانيًا أثر فيك بعمق؟ وماذا تعلمتَ منها؟
أتذكر موقفًا أمام طفل في الجنوب، كان يعيش في بيت تملؤه المشكلات الأسرية والإدمان، ولم يكن يعرف كيف يتواصل، أو يعبر عن نفسه. وقفتُ صامتًا لأنه لا يمكن للكلمات وحدها أن تغيّر واقعًا مثل هذا، وتعلمتُ أنَّ التغيير يحتاج إلى صبر طويل، ومتابعة دقيقة، ودعم متواصل.
عندما تقف أمام طفل يعاني من بيئة معقدة، أو شاب على حافة الإدمان، ما أول شيء تفكر فيه قبل أن تقدّم له أي نصيحة؟
أول شيء أفكر فيه هو الاستماع له وفهم واقعه بالكامل قبل أي نصيحة. كثير من الشباب يحتاجون لشعورهم بأن أحدًا يسمعهم حقاً ويهتم لأمرهم، فبدون هذا التواصل لا يمكن أن تصل أي رسالة توعية، أو علاجية بفاعلية.
هل ترى أنَّ المؤسسات التعليمية في ليبيا تدعم الصحة النفسية فعلاً، أم أنها – دون قصد – تخلق أحيانًا معاناة جديدة؟
للأسف، هناك نقصٌ كبير في الدعم الفعلي للصحة النفسية، وغالباً ما تركز المدارس على التحصيل العلمي فقط دون الاهتمام بالجانب النفسي، مما يخلق ضغطاً إضافياً على الطلاب ويؤثر على سلوكهم وحالتهم النفسية.
في تدريب المربيات ومعلمات رياض الأطفال، ما المهارة التي تعدها حجر الأساس لحماية الطفل نفسيًا في السنوات المبكرة؟
القدرة على التواصل الإيجابي، والاهتمام بالملاحظة الدقيقة للطفل، وفهم سلوكه ومشاعره. هذه المهارات تساعد المربية على تقديم بيئة آمنة، تمنع تشكل اضطرابات نفسية لاحقة.
هل تعتقد أن المجتمع الليبي مستعدٌ لتقبّل فكرة أن الصحة النفسية ليست وصمة بل ضرورة؟
الطريق ما زال طويلاً، لكن هناك وعيًا يتنامى تدريجياً، خصوصًا بين الشباب والمربين والمهتمين بالمجال. نحتاج لمزيد من التوعية المستمرة لتغيير المفاهيم الخاطئة وربط الصحة النفسية بالرفاهية العامة للفرد والمجتمع.



