أتاح ليَّ وجودي في التاسع من أغسطس بمسقط الرأس «هون» حضور إشهار الكتاب الصادر عن دار الجابر حول الفقيه الشيخ سيدي علي العربي الذي رحل عن عالمنا في العام السابع والستين من القرن الماضي، بعد مولدٍ ونشأةٍ ونشاطٍ في تلك الربوع وثّقَتْ لها رسائله وخُطَبُه ومشاركاته في الكثير مما يَهمُّ به المكان، فشكلت مجتمعة مادة هذا الكتاب الذي بلغت صفحاته مائة وخمسة وثلاثين صفحة، راجعها وقدّمَ لها الكاتب عبد الله زاقوب واحتفل بها مساء الجمعة بالمتحف الذي نُسِبَ للمدينة بعد أن كان مقراً للمركز الإداري للمنطقة منذ أن أعاد بناءه الإيطاليون في ثلاثينيات القرن الماضي وبقي كذلك طوال عهد دولة الاستقلال وجزء من عهد نظام سبتمبر، فقد بادرت فور علمي بالمنشط لأُفاجئ العربي وعبد الهادي وعبد القادر أبناء ذلك الراحل والذي طالما اعتبرني واحداً منهم في عطفه ورعايته ابتداءً من مولدي وتعلّم فك الخط على يديه وحتى تكلّفي كتابة الشعر كما حفظت أوراقه، فأحضى بنسختي من الكتاب بتوقيع الأستاذ زاقوب وسرور يصعب وصفه على مُحيا الثلاثة وآخرين غيرهم من المهتمين بالشأن العام وتجلياته الثقافية وربما السياسية، لقد تكفل الكتاب بإعطاء صورة عن الراحل وهي صورة كانت بذهني عندما خصصتُ له بابي المعنون بشؤون ثقافية في مجلة الإذاعة نصف الشهرية الذي بدأته في العام الخامس والستين وقد كرّستُه عقب وفاة المرحوم في إبريل 67 وقد قرأه في حينه الأستاذ خليفة التليسي وهو يحمل حقيبة وزارة الإعلام والثقافة وهو يتحدث عن سلبيات العدد لمدير الإذاعة مصطفى بن شعبان بحضوري وهو -أي التليسي- يأخذ على بعض الكتّاب احتفاءهم بغير الليبيين ولم يسأل عن فقيدنا الذي لم يكن مشهوراً واثقاً من موازيني على الأرجح. إنه المقال الموجود بمجلد مجلة الإذاعة وكما أشرت في مداخلتي التي تفضل بالدعوة لها الأستاذ زاقوب، فأدليت بما تيسر عن التكوين العلمي لسيدي علي والذي بدأ باستظهاره القرآن على الفقيه السنوسي اكريِّم برواية قالون، وكان الفقيه على دراية «بالمخصص» كما تلقينا من سيدي علي ونحن نجمع بين فك الحرف واستظهار القرآن وأحكام الضبط والذي لم ينقطع عنه الفقيه علي إلا بدخوله السلك القضائي فيما كان تحصيله اللغوي مع أقرانه من الحَفَظَةِ على يد الشيخ مصطفى حاج أحمد، كما شهد له أقرانه مبكراً بالنبوغ في أكثر من مجال لولا أنه لم يكن محظوظاً، حتى أنه لم يدخل الخدمة العامة إلا بآخر الأربعينيات وقد كان قريباً من الخمسين لولا أن صديقه الشيخ سالم عكاشة قد نبهه مبكراً إلى إخفاء عمره الحقيقي على الرغم من أنه ذهب مبكراً لبنغازي المعروفة بحدبها على كل وافد. لقد ساقه حظه لمعرفة السيد الصدّيق الرضا والارتباط به وليس من المستبعد أن يكون ذلك داعياً للحذر منه حيث كان الصدّيق على غير وفاق مع عمه الأمير إدريس ومع أنه كثيراً ما جامل في بعض كلماته المناسباتية، إلا أنه أي الفقيه علي العربي كثيراً ما يتخذ من المواقف ما يدل على تصحيحه، فتراه متناقضاً ولكنه في الحقيقة راجعَ ما سبق أن زكّى، من ذلك أنه كان على رأس الوفد الذي عارض ضم الجفرة لولاية فزان في العام السابع والخمسين مع أنه لم يكن كذلك عقب الحرب العالمية الثانية وقدوم السيد أحمد سيف النصر زائراً للمنطقة واحتفاء الكثيرين به ممن كان من بينهم فقيدنا وشيخنا ومن كان توأم الوالد من المولد وحتى الرحيل المبكر، فلم يؤم الشيخ كما كان يدعوه جاره الجمعة بمسجد عبد الجليل إلا وسنده سيدي علي كما كنا جميعا الأب والأبناء ندعوه، ولم يتقدم الذين اختارهم «كامبريدج» مستشارين إلا وكان سيدي علي العضد الأول، ولا تَقَدُّم الشيخ الجبهة الوطنية قبيل الاستقلال إلا والإثنين يحملان المسؤولية رئيساً ونائباً، وتشاء المقادير أن يتزامن حضوري مع الاحتفاء بآثاره فأشارك بالمتيسر واتخذ من التزامي بتحرير هذه المساحة موضوعاً لهذا الالتزام وأُعنونه بما حفظته كتابتي عنه بُعيدَ رحيله تحت عنوان «رجلٌ لا أنساه»