المواطنُ بين بطاقات مصرفية معطّلة وسوق موازٍ يلتهم الجيوب في كل مطلع شهر، ينتظر الليبيون نزول مرتباتهم باعتبارها المتنفس الوحيد لمواجهة موجة الأسعار التي ترتفع بلا رحمة. لكن المفارقة الصادمة أنّ المرتب الذي يُفترض أن يُعيد شيئًا من التوازن إلى حياة الأسر، يتحوَّل اليوم إلى عبء جديد قبل أن يغادر شاشة الهاتف إلى يد المواطن. فبينما تُصرف المرتبات إلكترونيًا، يظل المواطن في رحلة بحث شاق عن السيولة النقدية، رحلة تبدأ بالطوابير الطويلة أمام المصارف وتنتهي غالبًا بخيبة أمل، لأن السيولة لا تتوفر إلا منتصف الشهر بعد أن تكون أغلب الأسر قد استنزفت رواتبها في التسديد الإلكتروني والمشتريات الضرورية.
مصادر مصرفية غير رسمية تقول ألا يضخ السيولة للمصارف قبل أن يتأكد من استهلاك الناس لمرتباتهم عبر البطاقات، وكأن المواطن مُجبَر على الدفع الإلكتروني حتى آخر دينار، بصرف النظر عن حاجته للسيولة اليومية، وعن محدودية قدرة المنظومة الإلكترونية التي كثيرًا ما تتعطل أو تُرفض فيها العمليات بلا تفسير.
وفي ظل هذا التأخير المتعمّد أو غير المُعلن، تتحوّل الصناديق المعبأة بالنقد المحلي إلى طريق آخر… فبدل دخولها شباك المصرف، تصل كما يشكو المواطنون إلى سوق «المشير» محمولة في البراويط، لتُباع نقدًا مضمونا لجهات تتاجر في حاجة الناس.وهكذا تتدفق السيولة من خزائن الدولة إلى السوق الموازي بلا رقابة، بينما يبقى المواطن آخر من يصل إلى يده على ماله.أما من تبقّى له شيء من مرتبه وسط هذه الفوضى، فيجد نفسه مضطرًا إلى حرقه في محال الصرافة، فأسعار التحويل والشراء والعمولات تتغير كل ساعة، وتبتلع ما بقي من الراتب قبل أن يُفكّر في الادخار أو تغطية احتياجات نصف الشهر القادم.
هذه الدوامة المتكررة كل 30 يومًا خلقت أزمة ثقة حقيقية بين المواطن ومنظومة المصارف. فبدل أن تكون التكنولوجيا حلًا لتسهيل حياة الناس، أصبحت أداة في يد سياسات غير مفهومة، تزيد الاحتقان وتدفع الناس إلى التحايل على النظام أو اللجوء إلى السوق الموازي هروبًا من “تعطيل السيولة”.
يرى خبراء الاقتصاد أنّ استمرار هذا النهج يفتح الباب واسعًا أمام انتشار المضاربة، وارتفاع سعر النقد مقابل النقد، وتهريب السيولة من المصارف إلى السوق، مؤكدين أن غياب الشفافية هو أصل المشكلة. فالمواطن لا يعرف لماذا تتأخر السيولة، ولا إلى أين تذهب، ولا من المستفيد الحقيقي من هذه الفجوة التي تتكرر كل شهر.
في النهاية، يبقى السؤال الذي يردده الجميع:
هل السيولة موجودة فعلًا .. أم أنها تُدار وفق مصالح ضيقة تجعل المواطن آخر من يلمس ثمار راتبه؟
وإلى أنَّ تتحرك الجهات الرقابية وتضع حدًا لهذه الحلقة المفرغة، سيظل الليبي يعيش بين مرتب إلكتروني لا يشتري قوت يومه، وسيولة ورقية لا يراها إلا في البراويط بسوق المشير.

