رأي

سيولة مفقودة…ومرتبات تتبخر

فائزة صالح

المواطنُ‭ ‬بين‭ ‬بطاقات‭ ‬مصرفية‭ ‬معطّلة‭ ‬وسوق‭ ‬موازٍ‭ ‬يلتهم‭ ‬الجيوب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مطلع‭ ‬شهر،‭ ‬ينتظر‭ ‬الليبيون‭ ‬نزول‭ ‬مرتباتهم‭ ‬باعتبارها‭ ‬المتنفس‭ ‬الوحيد‭ ‬لمواجهة‭ ‬موجة‭ ‬الأسعار‭ ‬التي‭ ‬ترتفع‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭. ‬لكن‭ ‬المفارقة‭ ‬الصادمة‭ ‬أنّ‭ ‬المرتب‭ ‬الذي‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬يُعيد‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬الأسر،‭ ‬يتحوَّل‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬عبء‭ ‬جديد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬شاشة‭ ‬الهاتف‭ ‬إلى‭ ‬يد‭ ‬المواطن‭. ‬فبينما‭ ‬تُصرف‭ ‬المرتبات‭ ‬إلكترونيًا،‭ ‬يظل‭ ‬المواطن‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬بحث‭ ‬شاق‭ ‬عن‭ ‬السيولة‭ ‬النقدية،‭ ‬رحلة‭ ‬تبدأ‭ ‬بالطوابير‭ ‬الطويلة‭ ‬أمام‭ ‬المصارف‭ ‬وتنتهي‭ ‬غالبًا‭ ‬بخيبة‭ ‬أمل،‭ ‬لأن‭ ‬السيولة‭ ‬لا‭ ‬تتوفر‭ ‬إلا‭ ‬منتصف‭ ‬الشهر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أغلب‭ ‬الأسر‭ ‬قد‭ ‬استنزفت‭ ‬رواتبها‭ ‬في‭ ‬التسديد‭ ‬الإلكتروني‭ ‬والمشتريات‭ ‬الضرورية‭.‬

مصادر‭ ‬مصرفية‭ ‬غير‭ ‬رسمية‭ ‬تقول‭ ‬ألا‭ ‬يضخ‭ ‬السيولة‭ ‬للمصارف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتأكد‭ ‬من‭ ‬استهلاك‭ ‬الناس‭ ‬لمرتباتهم‭ ‬عبر‭ ‬البطاقات،‭ ‬وكأن‭ ‬المواطن‭ ‬مُجبَر‭ ‬على‭ ‬الدفع‭ ‬الإلكتروني‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬دينار،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬حاجته‭ ‬للسيولة‭ ‬اليومية،‭ ‬وعن‭ ‬محدودية‭ ‬قدرة‭ ‬المنظومة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تتعطل‭ ‬أو‭ ‬تُرفض‭ ‬فيها‭ ‬العمليات‭ ‬بلا‭ ‬تفسير‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬التأخير‭ ‬المتعمّد‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المُعلن،‭ ‬تتحوّل‭ ‬الصناديق‭ ‬المعبأة‭ ‬بالنقد‭ ‬المحلي‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬آخر‮…‬‭ ‬فبدل‭ ‬دخولها‭ ‬شباك‭ ‬المصرف،‭ ‬تصل‭ ‬كما‭ ‬يشكو‭ ‬المواطنون‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬‮«‬المشير‮»‬‭ ‬محمولة‭ ‬في‭ ‬البراويط،‭ ‬لتُباع‭ ‬نقدًا‭ ‬مضمونا‭ ‬لجهات‭ ‬تتاجر‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬الناس‭.‬وهكذا‭ ‬تتدفق‭ ‬السيولة‭ ‬من‭ ‬خزائن‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬الموازي‭ ‬بلا‭ ‬رقابة،‭ ‬بينما‭ ‬يبقى‭ ‬المواطن‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬ماله‭.‬أما‭ ‬من‭ ‬تبقّى‭ ‬له‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬مرتبه‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الفوضى،‭ ‬فيجد‭ ‬نفسه‭ ‬مضطرًا‭ ‬إلى‭ ‬حرقه‭ ‬في‭ ‬محال‭ ‬الصرافة،‭ ‬فأسعار‭ ‬التحويل‭ ‬والشراء‭ ‬والعمولات‭ ‬تتغير‭ ‬كل‭ ‬ساعة،‭ ‬وتبتلع‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬الراتب‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُفكّر‭ ‬في‭ ‬الادخار‭ ‬أو‭ ‬تغطية‭ ‬احتياجات‭ ‬نصف‭ ‬الشهر‭ ‬القادم‭.‬

هذه‭ ‬الدوامة‭ ‬المتكررة‭ ‬كل‭ ‬30‭ ‬يومًا‭ ‬خلقت‭ ‬أزمة‭ ‬ثقة‭ ‬حقيقية‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬ومنظومة‭ ‬المصارف‭. ‬فبدل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬حلًا‭ ‬لتسهيل‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬أصبحت‭ ‬أداة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬سياسات‭ ‬غير‭ ‬مفهومة،‭ ‬تزيد‭ ‬الاحتقان‭ ‬وتدفع‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬التحايل‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬أو‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬الموازي‭ ‬هروبًا‭ ‬من‭ ‬“تعطيل‭ ‬السيولة”‭.‬

يرى‭ ‬خبراء‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أنّ‭ ‬استمرار‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬يفتح‭ ‬الباب‭ ‬واسعًا‭ ‬أمام‭ ‬انتشار‭ ‬المضاربة،‭ ‬وارتفاع‭ ‬سعر‭ ‬النقد‭ ‬مقابل‭ ‬النقد،‭ ‬وتهريب‭ ‬السيولة‭ ‬من‭ ‬المصارف‭ ‬إلى‭ ‬السوق،‭ ‬مؤكدين‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬الشفافية‭ ‬هو‭ ‬أصل‭ ‬المشكلة‭. ‬فالمواطن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬لماذا‭ ‬تتأخر‭ ‬السيولة،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬تذهب،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬المستفيد‭ ‬الحقيقي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة‭ ‬التي‭ ‬تتكرر‭ ‬كل‭ ‬شهر‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يردده‭ ‬الجميع‭:‬

هل‭ ‬السيولة‭ ‬موجودة‭ ‬فعلًا‭ .. ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬تُدار‭ ‬وفق‭ ‬مصالح‭ ‬ضيقة‭ ‬تجعل‭ ‬المواطن‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬يلمس‭ ‬ثمار‭ ‬راتبه؟

وإلى‭ ‬أنَّ‭ ‬تتحرك‭ ‬الجهات‭ ‬الرقابية‭ ‬وتضع‭ ‬حدًا‭ ‬لهذه‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة،‭ ‬سيظل‭ ‬الليبي‭ ‬يعيش‭ ‬بين‭ ‬مرتب‭ ‬إلكتروني‭ ‬لا‭ ‬يشتري‭ ‬قوت‭ ‬يومه،‭ ‬وسيولة‭ ‬ورقية‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬البراويط‭ ‬بسوق‭ ‬المشير‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى