الانتماء ضرورة وجودية نفسية، وفكرية نحتاجها من أجل توطين الشعور بالاستقرار وبالتالي خلق المجال المناسب لحياة نسعى لأجل أن تكون بالمستوى المرجو للحلم والتطلع.
والانتماء يستدعي شعورًا ماسًا بأهميته لحاجتنا إلى معرفة أننا ذوو جدوى في وجودنا على هذه الحياة، ومن هذا الشعور تتأسس منظومة متكاملة من الفعالية والحركة فكريًا وعمليًا نحو تكريس الحياة التي نطمح لتوفيرها كل حسب المحيط الذي يحتويه وهو بالتالي ينتج عديد المشاعر من أهمها الولاء للبقعة الترابية التي نقف عليها وإكسابها معنى من الأهمية يتصل بحتمية الوطن وقيمة المعنى وهي وطن نسكن إليه ونرتاح في أحضانه ونتجدّد من خلال ازدهاره وزخمه الذي نصنع وفعالياته التي نحب .. والانتماء برأيي أساس كل تكوين يشتمل على عاطفة الحب كونه يصل في مشاعرنا لمستوى الروح حين تتغلغل في الوجود ولهذا صار الانتماء وطنًا معنويًا يطمح لولاء مادي حتى يتشكل الجسد الضروري للحياة حسًا، ومعنى .. وحيث إن الحياة بلا انتماء متفق على صعلكتها وعدميتها كونها مسكونة بالعبث وخاوية على عروشها لا نبض فيها، ولا هدف صار لزامًا علينا لنصل إلى توازن نفسي وروحي أن يكون لنا انتماء، وأن نعزّزه بكل الضرورات التي من شأنها أن تجعله الرقم الأول في منظومة الوجود ذا القيمة المستحقة .
فكرست الجهود على مختلف أنواعها الأخلاقية والدينية والسياسية والثقافية والمعرفية لتكريس أهمية الإنتماء لوطن نشكل من خلاله هوية تحدد كينونتنا وسط المجتمعات والمخلوقات المختلفة وحرصاً على هذه القيمة كان الولاء السور الدفاعي الأول والأهم للقيمة المعنوية الأكثر أهمية.
ولقد دأبت الثقافات المختلفة على توجيه الولاء الأقدس نحو الوطن بإعتباره الحاضن الأم لكل المنتمين له؛ فتشكلت آليات تنمية الولاء عبر منظومات أخلاقية متفق عليها، وتعاليم دينية مقدسة وقيم معرفية محترمة تقود بمجملها إلى أن الولاء الأقدس هو للوطن سيد الجميع وهوية الجميع وبيت الجميع .
إلى هنا السير طبيعي ومثالي .. إلا أننا أثناء السير التاريخي كشعب نتعرض أحياناً للمشاغبات التي تجنح نحو تفسير الولاء إلى قيم مختلفة محدودة الفائدة وخاصة جداً لاتفيد مجتمعاً بأسره بل تعود بالفائدة على أفراد من المحتمع في الوقت الذي تضر بالمسيرة الطبيعية للبلد .. وهذا أمر طبيعي كوننا كبشر تستحوذ علينا أفكارٌ قد لا تكون مثالية بقدر ما هي نفعية وانتهازية وهي غير ذات شأن ولا تكاد تبين لمحدوديتها وقلة متداوليها ..الأمر الذي يشذ بها عن القاعدة الرئيسة ويبعدها عن القياس لشذوذها غير أن الخطر يتبدى واضحاً حتى لكأنه الجرس الذي يأذن بنهاية المثل وإنهيار المنظومة الأخلاقية وبالتالي إنهيار المجتمع والقيم النبيلة عندما يلاحظ أن الانتماء لم يعد للوطن بعد الآن بل للجماعة، أو التنظيم، أو الحزب، أو الجهة، والولاء لمن يدفع أكثر دونما حسبان لمستقبل يتلاشى وأجيال ستنمو في اللاأخلاق، واللاقيمة واللامعنى . .فهل هذا هو الميراث الذي سنمنحه لأبنائنا ؟ أم هل تغيرت القيم والمباديء والأسس العامة للإنسانية؟ .. وهل للدولة بمختلف أذرعها دور في تكريس القيم الحضارية والأخلاقية؟ أم أن دورها يقتصر فقط على توطين التفاهة ومسك عصا الجزرة قدام المواطن كي يستمر في لهاثه المجنون نحو توفير ما يحتاجه دونما إعتبار لكيفية توفير احتياجاته على النحو الكريم .. أعتقد أننا نضيع .. أعتقد أن البوصلة محطمة .. وأعتقد أن المفاهيم تغيرت ..كما أعتقد أننا نعيش الكابوس بمعناه الحقيقي .