
بَثَّت هيئة الإذاعة البريطانية كما كانت تُدعى وهي تنشر أخبارها باللغة العربية من مقرها في لندن، وصارت في زمن التلفزيون يغلب عليها مصطلح البي بي سي عربي، شريطها الوثائقي المتعلق بواحد من أبرز أعلام عصرنا العربي السيد موسى الصدر، والذي ارتبط اختفاؤه بِنَا أثناء زيارةٍ لطرابلس في العام الثامن والسبعين من القرن الماضي، وبالتحديد الحادي والثلاثين من أغسطس، إذ كان من بين الضيوف الذين شملتهم دعوات السلطة لحضور احتفالات الأول من سبتمبر أو الفاتح كما هي التسمية الرسمية، لتعود أغاني العرس رجع نواح، كما يقول الشاعر أحمد شوقي في أشهر قصائده، إذ كان حضور الصدر آخر ما ذُكِرَ عن الحضور المُعلَن، حيث تمت الغيبة أي غيبة الصدر ولم يُعرَف هل كانت الغيبة جزاءً له على تطاوله، أو مَهَمّْةً أُنجِزَت في ليبيا لتُشكِّلَ مستمسكا يستحيل التخلص منه ومن مسؤوليته كلما فُتِحَ الحساب مع العقيد القذافي من مدخل الأبواب التي دخل منها متعمدا أو اعتقد إمكانية التسلل منها فتم الإمساك به واستطاع أن يتنصّلَ بعض، تماما مثلما حدث مع الذين أقدموا على خطف ابن القذافي هنيبال قبل عشر سنوات وإيداعه سجون بيروت ليبقى عقدا كاملا من الزمن متهما بجريمة تمت وعمره لم يتجاوز العامين، فلا يخرج إلا وملف الصدر يُفتح من جديد ويكون مدخله هذا الشريط الذي يعيد إلى الذاكرة رحلة الصدر عندما بدأت في بيروت عقب هزيمة يونيو 67م وتلقيبه سيد المحرومين ويكون موضع إجماع حركة النضال العربي الجامع بين اليمين واليسار، فيما كانت القلة تُذَكِّر بدور الشاه الخفي في الدفع بالرجل نحو لبنان ومنجزه في الدفع بطائفة الشيعة التي هو من صلبها، قبل أن تكونه إيران ليس فقط من أجل أن تأخذ نصيبها في السلطة ببيروت، وإنما الوصول من خلالها إلى الموقع الذي يفوق كل الطوائف لدرجة التوفيق بين اليمين واليسار، ويتسنى اليوم بث الشريط دون أن يغفل أهم أسرار اختفائه وبالأحرى جريمة دمه وارتباطها بالمتغيرات التي حملتها ذات يوم أوراق الموساد المفقودة التي روجت في معرض الصراع الذي طالما كانت حدوده ليبيا، فيحمل الشريط الوثائقي الذي انطلقنا منه في هذه المقاربة والتي تفرض طبيعتها التلميح ربما أكثر من التصريح… وعندما تُردد الإعلانات التشويقية للشريط المتعلق بالإمام المُغيب، أن غيابه غير الشرق الأوسط، فإن ذلك يعني أن دور القذافي وزمنه الذي تجاوز الأربعة عقود ولم ينته عهده إلا مع غيره ممن حكموا تونس ومصر وما تزال الآثار موجودة في اليمن وسوريا، فإن ذلك لا يعني أن كل من يتوهم عندنا معشر الليبيين إمكانية استنساخ دوره أو تقليده في الحكم أو التصرف بالثروة دون معرفة الأسرار الحقيقية، لن يكون أكثر من سائر بطريق لا يؤدي إلا إلى ما لا حدَّ له من السراب الذي طالما احتسبه الضمآن ماء ريثما يرده، فلا يبدو أمامه سوى المزيد من المدى وهكذا غاب الصدر ولم يبقَ إلا الخبر، ولا شيء غير الخبر.
