رأي

عن الصدر والخبر والأثر

أمين مازن

بَثَّت‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬البريطانية‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تُدعى‭ ‬وهي‭ ‬تنشر‭ ‬أخبارها‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬مقرها‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وصارت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التلفزيون‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬مصطلح‭ ‬البي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬عربي،‭ ‬شريطها‭ ‬الوثائقي‭ ‬المتعلق‭ ‬بواحد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬أعلام‭ ‬عصرنا‭ ‬العربي‭ ‬السيد‭ ‬موسى‭ ‬الصدر،‭ ‬والذي‭ ‬ارتبط‭ ‬اختفاؤه‭ ‬بِنَا‭ ‬أثناء‭ ‬زيارةٍ‭ ‬لطرابلس‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الثامن‭ ‬والسبعين‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬الحادي‭ ‬والثلاثين‭ ‬من‭ ‬أغسطس،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الضيوف‭ ‬الذين‭ ‬شملتهم‭ ‬دعوات‭ ‬السلطة‭ ‬لحضور‭ ‬احتفالات‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬أو‭ ‬الفاتح‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬التسمية‭ ‬الرسمية،‭ ‬لتعود‭ ‬أغاني‭ ‬العرس‭ ‬رجع‭ ‬نواح،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬قصائده،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬حضور‭ ‬الصدر‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬ذُكِرَ‭ ‬عن‭ ‬الحضور‭ ‬المُعلَن،‭ ‬حيث‭ ‬تمت‭ ‬الغيبة‭ ‬أي‭ ‬غيبة‭ ‬الصدر‭ ‬ولم‭ ‬يُعرَف‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬الغيبة‭ ‬جزاءً‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬تطاوله،‭ ‬أو‭ ‬مَهَمّْةً‭ ‬أُنجِزَت‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬لتُشكِّلَ‭ ‬مستمسكا‭ ‬يستحيل‭ ‬التخلص‭ ‬منه‭ ‬ومن‭ ‬مسؤوليته‭ ‬كلما‭ ‬فُتِحَ‭ ‬الحساب‭ ‬مع‭ ‬العقيد‭ ‬القذافي‭ ‬من‭ ‬مدخل‭ ‬الأبواب‭ ‬التي‭ ‬دخل‭ ‬منها‭ ‬متعمدا‭ ‬أو‭ ‬اعتقد‭ ‬إمكانية‭ ‬التسلل‭ ‬منها‭ ‬فتم‭ ‬الإمساك‭ ‬به‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يتنصّلَ‭ ‬بعض،‭ ‬تماما‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬الذين‭ ‬أقدموا‭ ‬على‭ ‬خطف‭ ‬ابن‭ ‬القذافي‭ ‬هنيبال‭ ‬قبل‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬وإيداعه‭ ‬سجون‭ ‬بيروت‭ ‬ليبقى‭ ‬عقدا‭ ‬كاملا‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬متهما‭ ‬بجريمة‭ ‬تمت‭ ‬وعمره‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬العامين،‭ ‬فلا‭ ‬يخرج‭ ‬إلا‭ ‬وملف‭ ‬الصدر‭ ‬يُفتح‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬ويكون‭ ‬مدخله‭ ‬هذا‭ ‬الشريط‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬رحلة‭ ‬الصدر‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬عقب‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو‭ ‬67م‭ ‬وتلقيبه‭ ‬سيد‭ ‬المحرومين‭ ‬ويكون‭ ‬موضع‭ ‬إجماع‭ ‬حركة‭ ‬النضال‭ ‬العربي‭ ‬الجامع‭ ‬بين‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار،‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬القلة‭ ‬تُذَكِّر‭ ‬بدور‭ ‬الشاه‭ ‬الخفي‭ ‬في‭ ‬الدفع‭ ‬بالرجل‭ ‬نحو‭ ‬لبنان‭ ‬ومنجزه‭ ‬في‭ ‬الدفع‭ ‬بطائفة‭ ‬الشيعة‭ ‬التي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬صلبها،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكونه‭ ‬إيران‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬نصيبها‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬ببيروت،‭ ‬وإنما‭ ‬الوصول‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬الموقع‭ ‬الذي‭ ‬يفوق‭ ‬كل‭ ‬الطوائف‭ ‬لدرجة‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار،‭ ‬ويتسنى‭ ‬اليوم‭ ‬بث‭ ‬الشريط‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغفل‭ ‬أهم‭ ‬أسرار‭ ‬اختفائه‭ ‬وبالأحرى‭ ‬جريمة‭ ‬دمه‭ ‬وارتباطها‭ ‬بالمتغيرات‭ ‬التي‭ ‬حملتها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أوراق‭ ‬الموساد‭ ‬المفقودة‭ ‬التي‭ ‬روجت‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬كانت‭ ‬حدوده‭ ‬ليبيا،‭ ‬فيحمل‭ ‬الشريط‭ ‬الوثائقي‭ ‬الذي‭ ‬انطلقنا‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬والتي‭ ‬تفرض‭ ‬طبيعتها‭ ‬التلميح‭ ‬ربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬التصريح‭… ‬وعندما‭ ‬تُردد‭ ‬الإعلانات‭ ‬التشويقية‭ ‬للشريط‭ ‬المتعلق‭ ‬بالإمام‭ ‬المُغيب،‭ ‬أن‭ ‬غيابه‭ ‬غير‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬القذافي‭ ‬وزمنه‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬الأربعة‭ ‬عقود‭ ‬ولم‭ ‬ينته‭ ‬عهده‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬ممن‭ ‬حكموا‭ ‬تونس‭ ‬ومصر‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬الآثار‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬وسوريا،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يتوهم‭ ‬عندنا‭ ‬معشر‭ ‬الليبيين‭ ‬إمكانية‭ ‬استنساخ‭ ‬دوره‭ ‬أو‭ ‬تقليده‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬أو‭ ‬التصرف‭ ‬بالثروة‭ ‬دون‭ ‬معرفة‭ ‬الأسرار‭ ‬الحقيقية،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬بطريق‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬حدَّ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬السراب‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬احتسبه‭ ‬الضمآن‭ ‬ماء‭ ‬ريثما‭ ‬يرده،‭ ‬فلا‭ ‬يبدو‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬المدى‭ ‬وهكذا‭ ‬غاب‭ ‬الصدر‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬إلا‭ ‬الخبر،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬الخبر‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى