كانتْ الصلاةُ قد انعقدتْ، وصحنُ الجامع المكتنز بالمصلين قد خوى بعد أن تجمهرتْ الاسماعُ والأفئدة لتلقي خطبة الجمعة، ذرعتُ الطريق الترابي المفوض لدار جدتي، وأنا اتأمل الدربَ الذي انقضت فيه سنوات صباي، تصاعدت الأنفاس مني وانا اقفز بين بركات الماء المحتشدة أثر زخات امطار البارحة، دخلت بيت جدتي كما جرت العادة كل يوم جمعة، سلمت على اهل الدار ثم ولجت صومعة العجوز المعمرة التي تسمى نجيمة وتكنى بـ“قريوش“ لدى بعض نساء العائلة، تجاوز عمر ام جدتي الاثيرة القرن ونيف، وقد سألتها لأعوام عديدة منذ الصبا
– كم عمرك يا جدتي؟
كانت الإجابة ذاتها واصبة برغم اختلاف الأزمنة
– عمري!.. انا ولدت في العام الذي استشهد فيه والدي، تركني وانا ابنة سبعة أيام
لطالما أثارت اندهاشي هذه العجوز التي تكاد ان تتذكر أسماء احفادها، بأن تحافظ على هذه الإجابة الثابتة على مر العقود، تروي قصص اباها الراحل ببراعة برغم انسلال خيط الذاكرة منها بسبب الهرم، تستحضر كل التفاصيل التي حكيت لها وتسردها بصوتها الخاشع رفقة اساريرها العتيقة الشاهدة على صرامة الأيام
– كان ابي فارس، فارس بحق… زين وبهاء، تزوج امي الشابة الصغيرة “ام عيون زرقاء“ وانجبتني عام المعركة، قالت لي عمتي: انه استيقظ ليلتها بسبب بكائي، فضمني اليه واخذ يغنجني بعد ان استسلمت امي للكرى، قبل جبيني وراح يهمس بكلمات ضاحكاً، ثم نظر لعمتي وقال لها راجياً. بالله عليك يا فاطمة… انها امانة في عنقك فلا تتركيها، أخاف عليها ان تموت كما ماتوا اخوتها، العدو تقدم يا اختاه، والله وحده يعلم هل سأرجع بعد يومي هذا ام لا.
تأملت مقلتيها الزرقاء فوجدتها تذرف دموعها دون ان تدري وهي تروي قصتها للمرة المئة وكأنما ترويها للمرة الأولى، اخذت العجوز أنفاسها المتقطعة ثم اردفت بصوت شجي:
– قالت له عمتي لا تذهب يا مختار.. لا تذهب من اجل الطفلة، فأجابها وهو على صهوة حصانه: تريدين ان يقولوا مختار فر وقت القتال؟ لا والله لا تكتب عليّ او ينطق بها ابن حمودة في شعره.
أطرقت جدتي وهي تضرب بكفيها حزناً وقساماتها تخيل لك انها تريد منع اباها من الذهاب، وكأنما عبرت حدود الزمان والمكان وهي تحاول صد فارسها من الذهاب، وبعد لحظات صامتة طأطأت رأسها بخسارة
– امتطى حصانه وذهب… لكنه لم يعد يا ولدي
قبلت جبينها وجلست استمع لحكايتها بحماس لا يوصف وكأنني لم اسمعها من قبل.
بسبب حكايات جدتي الشيقة هويت التاريخ وابحرت في انهار المعرفة المترامية، وبين درفتي الكتاب استعدت عمراً قد ولى وشبابا قد هرب، عبر هذه البوابة السحرية يستطيع المرء ان يضاعف فكره وشعوره، يستطيع ان يضاعف خياله كما تتضاعف الصورة بين مرآتين، بات يقدر كلاً منا ان يعيش أكثر من حياة؛ لأن حياة واحدة لا تكفي.
وبعد بحث وتقصي علمت الوجه المفقود لقصة الفارس الذي خانه جواده، دارت المعركة مع الاحتلال الغشيم بالقرب من قريتهم التعيسة، واثناء الوطيس أصيب مختار إصابة بالغة قد منعته من مواصلة كفاحه، امتطى فرسه وابتعد من ساحة القتال للملمت شتاته وعلاج جروحه، كان واثق الزين كما تناديه جدتي من فرسه، تأمل فيها النجاة وإنقاذ حياته، لكن الفرس لم تفي بالوعد، وفي طريقهم الى المجهول استرقت صوت خيل العدو فظنت انها مهرتها، فراحت تعدو باتجاه الأعداء ومختار المسكين غارق في دمائه لا حول له او قوة، مضت الفرس نحو حتف فارسها المكلوم دون ان تدري، وحين وصلت للأعداء صهلت الفرس واخذت تضرب بحوافرها الأرض، وكأنما ارادت ان تفر بخيالها في محاولة يائسة من روح جدتي التي اخترقت الزمان وحاولت ان تمنع فارسها من الموت، لكن محاولاتها لم تجدي نفعاً، قبض الايطاليون على مختار ونشوة النصر تتراقص بين اعينهم، وكيف لا وقد اتاهم القدر بضالتهم دون جهد، رحل فارس جدتي بعد جولات من التعذيب وتنكيل بجثته، فأفضت روحه الى بارئها تاركاً صغيرته ام سبعة أيام.
بعد ان اكتملت لدي قصة فارس جدتي، فكرت بأن أخبر جدتي ما علمت، لكني لم أقدر، خفت ان تعرج عن تكرار قصتها الاثيرة، ووجلت ان تحرمني من سردها الذي لا يوصف بعد ان كان مصدر الهامي، لم أرضى بأن يلاعبني المجهول ويغير طبائع جدتي، فتحفظت على معلوماتي وبقيت في كل يوم جمعة اسلك دربنا الترابي واجلس بجوارها لأسمع ما لم اسمع من قبل