أقرأ كتابَ الأمثالِ الطرابلسيةوكأنني أسمع المكتبة الليبية تسأل المثقف والأديب الليبي، والمؤسسات الثقافية الليبية أين تراثكم ؟ وأين تاريخ أجدادكم؟ وأين هي معاجم لهجاتهكم ومتون عادتكم وتقاليدكم؟، وأين كل تراثكم الشفهي؟، أين ما يجري على ألسنتكم من أقوالٍ وأمثالٍ وحكمٍ ومواعظ وتجارب وخبرات وأغانٍ وأشعار وألحان، المكتبة الليبية تسأل كل جيل سابق ماذا عساه أن يقدم للجيل اللاحق .
أ.سماء مصطفى الطربلسي مع شقيقتها نزيهة الطرابلسي تجيب عن هذه الأسئلة وترفعا صوتهما تسأل سكان مدينتها، وتمسك قلمها وتسجل هذا الكتاب القيّم الذي قضت ما يقارب نص قرن في جمع مادته وتسجل ما تسمع وتقرأ في البيت والشارع المدرسة ما تسمع من أحاديث محمد حقيق وأحمد النويري، وما ترويه الجدات.
رأتْ أسماء منذ طفولتها أهمية المثل في لغة التداول اليومي ، وكيف كان المتحاورون يتوقفون عند المثل، وكيف يسلمون بقوة حجته، لاحظتْ الباحثة منذ طفولتها كيف كان )المثل هو كلمة الفصل( مدى جمال المثال، وحكمة معناه وجمال لفظه في صياغة منغمة يوحي معنى ذكي يكشف علاقة خفية مصاغة في قيمة أخلاقية أو عبرة فلسفية.
أسماء الصبية عشقتْ الأمثالَ الشعبية، ورأت فيها هي كلمة الفصل في كل حوار..
الأمثلة الشعبية عبارة خزانات مليئة بخلاصة التجارب، وتشكب الذاكرة الشعبية محميات طيبعية حفظت كثيرًا من الكلمات والتعابير من الإنقراض.
المثل كان هو كلمة الفصل، في الثقافة الليبية السائدة ، المثل في ليبيا يمثل حجة قوية يجب على المتحاورين التسليم بدلالته والاعتراف بمشروعيته.
عندما سألتُ الكاتبة لماذا أمثلة شعبية طرابلسية؟ لماذا لم تكن أمثلة ليبية،؟ تبين أن محتوى الكتاب يفرض العنوان الباحث، كما أن الأمانة العلمية تفرض هذا العنوان )الأمثال الطرابلسية( فقد كانت ميدان البحث، أو الحقل الدراسي الذي جمعت منه الباحثة مادتها هو مدينة طرابلس فهي لم تسافر لمدن وأيارف وواحات ليبيا لتتواصل معهم وتجمع أمثالهم، بل جمعت ما سمعت به في مدينة طرابلس عبر المعايشة اليومية ، وكما أن الامثلة الليبية المتداولة في طرابلس مصاغة باللهجة الطرابلسية.
كتاب الأمثلة الطرابلسية ضم حوالي «5000» مثلٍ في خطة إخراجية تخدم الغاية، والعرض من توثيق الموروث الشعبي بحيث نهجتْ الباحثتان في ترتيب الكتاب أسلوب شائع في الكتب التوثيقية وهو ترتيب المادة حسب الترتيب الهجائي للحروف حيث بدأت بالأمثلة التي تبدأ بحرف )الألف(، وجاءت على النمو التالي:
1- أمثلة تبدأ بحرف الألف حوالي)800( مثل.
2- أمثلة تبدأ بحرف الباءحوالي)200( مثل.
الأمثلة الشعبية جاءتْ في صياغات مختلفة منها جاء في شكل سؤال استنكاري مثل :
)شن( أي شيء هو
شن جاب شعبان في رمضان.
شن يخلص الحرير من السدرة.
شن اليوم، وشني غدوة.
شن جاب هذا مع هذا.
أمثلة مصاغة في جملة إخبارية مثل:
اللي ليك ليك يمضغك وما يعديك
اللي ما تجيب بالطيبة ما تجيش بالكتيبة
اللي ما فيه خير لأهله ما فيه خير للنَّاس.
اللي ما عنداش مايموتلاش.
اللي يدير خير يلقاه واللي يدير شر يلقاه
اللي موش في إيدك تكيدك.
اللي ما يدير شي ما يجيه شيء
اللي مارباشي بوه الأيام يربوه
اللي ما شبع بالرفس ما يشبعه بالحس.
اللي ما عند شاهد كذاب.
اللي عنده البنات يناسب الكلاب
اللي عند البنات يأكل الفتات
اللي ياخذ امنا هو بونا
اللي ما مات ما يدري بيش يموت
ثانيًا: هناك أمثلة مصاغة في جمل شرطية
اللي يدير خير يلقاه واللي شر تلقاه
اللي ما يدخل يديه في الحفر ماتلذغه العقارب
ثالثًا : هناك أمثلة تعبرّ عن تجربة .
يطوال السفر ويرتخى التفر.
كل سفرة تعلمك حذاقة.
الرفيق قبل الطريق.
رابعًا : المثل النصيحة .. مثل )ماتزاوروا الين تتشاورا(
خامسًا : الأمثلة منظومة.
جاءت خاتمة الكتاب بالأمثلة المنغمة صاغها العقل الجمعي في أسلوب النظم الشعري حتى يمكن حفظها وتعلق بالذاكرة، ويسهل تداولها بين النَّاس.
الخلاصة :
عند قرأت كتب الأمثلة الشعيبة الليبية يمكن لنا نعرف كيف كان النَّاس في ليبيا يفكرون وما هي درجة ذكائهم في استخلاص المعنى من تجارب الدنيا، وما مدى مهارة العقل الجمعي في صياغة التجربة في لغة مكثفة مقطرة تجعل السامع يتفاعل مع المثل، والرسالة التى يسعى لايصالها للأجيال.
هذا الكتاب لفت إنتباهي إلى أولويات الثقافة السائدة في طرابلس في النصف الأخير من القرن العشرين، وكيف أن القيمة الأخلاقية هي القيمة الأولى التي يحرص «المثل الطرابلسي» على تأكيدها بين النَّاس، ثم القيمة المعرفية، أو القيمة التعليمية حيث نجد أمثلة تلخص التجارب المهن العملية من تجارة، وصناعة، وفلاحة )صنعة في اليدين ولا ورث الجدين(، وتجارب السوق مثل )اللي بترهنه بيعه واللي بتخدمه طيعة(.
كتاب الأمثال الطرابلسية كتاب قراءته مفيدة يجعلك ترى طرابلس من جديد عبر أقوال، وأمثال أهلها، وكيف كتبوا دستور حياتهم وصاغوا بنود دستورهم في شكل «مثل شعبي» تعارفوا عليه وصار هو العُرف الذي هو أساس فلسفة القانون.